الاثنين، 16 أبريل 2018

الانتحال الذاتي..كيف؟

الانتحال الذاتي..كيف؟


"كيف تريد أن تقنعني أنّ الشخص يمكن أن ينتحل نفسه!".  يتردّد هذا السؤال كثيرًا، ولا يكاد يخلو منه نقاش حول موضوع الانتحالات في السنوات العشر الأخيرة. وهو سؤال وجيه فعلًا؛  فكيف يصحُّ القول إنّ الكاتب ينتحل نفسه حين يُعيد نشر فقرات من نصٍ سابق له هو نفسه؟ تعريف الانتحال هو أن تنسب قول الآخرين لنفسك، وهذا ينطبق أيضًا على المصطلح الإنجليزي "بليجرزم"، فهو مشتقّ من كلمة لاتينية تعني "اختطاف ما عند الآخرين". فكيف نختطف ما هو ملكنا أساسًا؟

الجانب اللغوي
لنبدأ أولًا من الشقّ اللغوي في المسألة. وعلينا الاعتراف للمعترضين بوجاهة اعتراضهم، فالمصطلح ركيك وغير منطقيّ، لذلك يفضّل البعضُ أن يقول "إعادة تدوير" أو "إعادة نشر"، وما إلى ذلك. فكلمة "الانتحال" قوية جدًا على هذا الفعل، واستخدامها مسيء في حقّ من نوجّه له أصابع الاتهام.
ولكنْ ماذا لو كان هذا تحديدًا ما يجعل الآخرين يتمسّكون بهذا المصطلح؟ بمعنى أننا نتعمّد استخدام هذا المصطلح المتعارض في ذاته لكي نحتفظ بكلمة "الانتحال"، نظرًا لما اكتسبتْه من قوةٍ، ودلالة إدانيّة. صحيحٌ أنّ كلمة "انتحال" أو "بليجرزم" تعني في الأصل نسبة ما للآخرين لنفسك، لكنّ هذا ليس سوى جزء واحد من الدلالة التي اكتسبها المصطلح مع الوقت، ألا وهي "الادعاء بأنك أتيتَ بشيءٍ جديدٍ في المعرفة".  



الجانب المعرفي الأكاديمي
لعلنا نتفق أنّ أكثر مجال تُثار فيه قضية الانتحالات هو المجال الأكاديمي، فالقضية هنا لم تعد مجرّد "سرقة جهود الآخرين"، بل أيضًا "التضليل" و"التشويش" على تراكم المعرفة. قد يقول قائل: طالما أنّ الكلام كلامي، فأنا لا أضرُّ أحدًا ولا أسرق أحدًا إن أعدتُ استخدامه. لكنّ هذا كلام يحتاج إلى تمحيص، فالنشر الأكاديمي لا يحدث في فراغ، وإنما هو جزء من سياق كامل ينبني بعضه على بعض، وتترتب عليه أشياء عديدة. فمثلًا، الترقياتُ الأكاديمية للأساتذة تعتمد على عدد الأبحاث المنشورة، على افتراض أنّ الأستاذ كان يضيف شيئًا جديدًا إلى المعرفة في كل بحث، وبذلك يستحقّ الترقية إلى لقب "أستاذ مشارك" أو "بروفيسور". وربما يقول أحدهم: لماذا الحسد؟ ما يضرّك لو أنه ترقّى؟ لو توقف الأمر عند ترقيته، ربما لن يضرّني أو يضرّ غيري، ولكن ماذا لو أنني تنافستُ معه على منصب أكاديمي؟ أبحاثُه الكثيرة (المكررة) بالتأكيد ستؤثر في نتيجة التنافس كما يقول أحد المعلّقين على هذا الموضوع[1].   

الجانب الأخلاقي
المشكلةُ هي أنّ القارئ (والناشر أيضًا) يتوقع منك أن تضيف شيئًا جديدًا للمعرفة، بينما أنت تجترّها. وهناك مثال طريف يورده ليونِد شنايدر: تخيّل أنك على سفرٍ واشتريت روايةً جديدة لكاتبٍ معروف، وأخذت تقرأها في رحلة السفر، ثم اكتشفتَ أنها مشابهة جدًا جدًا لروايةٍ سابقة قرأتَها للمؤلف العام الماضي. بالتأكيد ستنزعج، وربما تطالب بردّ قيمة الكتاب (انتهى المثال[2]). والحالُ نفسه مع أية كتابة أخرى. ولنأخذ مثالًا آخر: لو أنني أشرفتُ على ندوة كبيرة في بلادي ثم دعوتُ باحثًا معروفًا لتقديم ورقة بحثية فيه، وحين حضر قدّم ورقةً ألقاها في مؤتمر آخر أو نشرها سابقًا. بالتأكيد سأنزعج، وليس فقط لأنه استغفلني، لأنني سأغضب أكثر من صفاقته لو قال في بداية كلامه: "هذه ورقة ألقيتُها سابقًا في مؤتمر كذا، وسأكررها هنا".

ولو ابتعدنا عن المجال الأكاديمي، فإنّ الأمر ينطبق أيضًا على كتّاب المقالات في الصحف. جزءٌ من احترام الكاتب للقارئ والصحيفة أن أخصّهما بشيءٍ جديد لم أقله سابقًا، إلا إذا أوضحتُ لهما في المقال نفسه أنّ الكلام مكرّر. مرةً أخرى، النشرُ لا يحدث في فراغ، وتترتب عليه أشياء كثيرة؛ فهناك مبالغ تُدفع، وهناك سُمعة (ربما مزيفة) تنبني للكاتب، وهناك وقتٌ ينفقه القارئ في القراءة، ووقتٌ ينفقه المصمّم في الصحيفة، وحبرٌ وورق وجهود أخرى. إذا لم يكن ثمة جديد يستحقّ عناء النشر، فلا ضرورة للتكرار.

خلاصة
لا يُنكر أنّ ثمة اعتراضات على المصطلح، لكنه في واقع الأمر يستقرّ أكثر في الدوائر الأكاديمية يومًا بعد يوم. هذا من حيث المصطلح، أما من حيث الممارسة نفسها فقد أصبح من النادر تبريرها الآن. بل إنّ باحثًا كبيرًا مثل الراحل زيجمونت باومان طالتْه هذه التهمة بعد أن خلص باحثان في بريطانيا إلى أنّ باومان "انتحل ذاتيًا" ما يقرب من 90000 كلمة من كتبه[3]. وما يزال النقاش دائرًا حول ممارسات أخرى أصبحت تنضاف إلى "الانتحال الذاتي"، مثل أن يقسِّم الباحث أطروحته للدكتوراة إلى أبحاث صغيرة وينشرها متفرّقة لكي تتضخّم سيرته الذاتية (وأعترفُ شخصيًا أنني استخدمتُ جزءًا من رسالتي للماجستير ونشرتُه كورقة بحثية في مجلة علمية محكّمة). الأمرُ إذًا لم يعد مجرد أخذ كلام من الآخرين ونسبته إلى الذات، بل أصبح مرتبطًا أكثر بالتضليل وادعاء الإتيان بجديد معرفيًا.  






الخميس، 1 سبتمبر 2016

نوعٌ آخر من المساحة الآمنة



نوعٌ آخر من المساحة الآمنة
بقلم: تِدْ گَبْ
ترجمة: أحمد حسن المعيني
----
[المساحةُ الآمنة مُصطلحٌ يُراد به البيئة التعليمية التي لا تسمح أبدًا بأيّ نقدٍ أو تعبيرٍ ينطوي على تحقيرٍ للأقليّات أو أصحاب الميول الجنسية المختلفة، لكي يشعر هؤلاء أنهم في مأمن من الاضطهاد]

في المحاضرة الأولى من مقرّر الكتابة غير الأدبية الذي سيبدأ الأسبوع القادم في الكلّية سأقول لطلابي إنّ "هذا الصفّ حَرَمٌ مُقدّس لحرّية الرأي". بهذا الإعلان أبدأ كلَّ فصلٍ دراسي، وهي عادة لم أخلفها منذ ثلاثين عامًا. ولكن ما المقصود بتلك العبارة؟. تعني ببساطة أنّ الطالب في هذا الصفّ يمكنه أن يقول أيّ شيء يريده.
       حتمًا سيسأل أحد الطلاب: "أي شيء؟"، موحيًا بما قد يحدث من سوء تصرّف، وتوتّر.
-      نعم، أيّ شيء.
فإن أرادوا أن يتلفّظوا بالكلمة الإنگليزية النابية التي تبدأ بحرف "F" فلهم ذلك (ولكي أكون صادقًا فإنني أفضّل هذه الكلمة على الاستخدام المضجر لكلماتٍ مثل "like" و "you know"). وبإمكانهم أيضًا أن يستخدموا تلك الكلمة العنصرية التي تبدأ بحرف "N" أو أية كلمة أخرى تفيد استحقار عِرقٍ ما أو جنسٍ أو جماعة إثنيّة.
       حين أقول ذلك سأسترعي انتباههم. لا أعرف ما إذا كنتُ أنتهك قواعد الكلّية أم لا، لكنّ الأكيد أنني أصبحتُ خارج "المساحة الآمنة"، ولا بأس في ذلك. فأنا أريد أن أكون خارج المساحة الآمنة، وأريد للطلّاب كذلك أن يكونوا خارجها.
       في نهاية المطاف هذا مقرّرٌ للكتابة، ولا ينبغي العبث بالكلمات؛ فللكلمات تَبِعاتٌ [غير آمنة]. إنْ كنتَ تريد استخدام كلمةٍ ما، أيّ كلمة، فلا بأس، ولكن لا بدّ أن تكون مستعدًا لقبول ما يتبعها. لا أقصد أنني  سأوبّخك، لكنني لن أسارع إلى إنقاذك أيضًا. ليس هذا مجرد درس في قوّة الكلمات فحسب، بل هو كذلك درس في الديمقراطية وحرية التعبير والمسؤولية.   
       الكلماتُ خطيرةٌ طبعًا، لكنّها لا تساوي خطورة المحاولات لقمعِها، سواء أجاء ذلك القمع من الحكومة أم من العميد، كما أنّ الكلمات على خطورتها فإنها لا تساوي ضرر الرقابة الذاتية. أعرفُ أنّ بعض الزملاء والطلاب لا يتّفقون معي في آرائي هذه (رغم أنّ أحدًا لم يشتكِ قطّ)، لا سيّما في عصر المطالبات بالمساحات الآمنة (safe spaces) وتحذيرات المحتوى الصادم (trigger warnings) وقوانين الاضطهاد المصغّر (microaggression) وقوانين التعبير. لستُ مُحافظًا رجعيًا، وإنما أنا لِبْراليٌّ من الطراز القديم، تلميذ من تلاميذ جون ستِوَرت مِلْ وبِرْتْرَنْد رَسِلْ الذي عَنوَن أحد كتبه في مظهرٍ من مظاهر التحدّي: مقالات غير محبوبة
       على أنني أختلفُ مع برترند رسل في أمر واحد؛ إذْ قال إنّ "جميع الحركات تتجاوز الحدّ"، وهو محقٌّ في أغلب الأشياء، ولكنْ ليس فيما يتعلق بحرية التعبير. في هذا الأمر لا يوجد شيء يجاوزُ الحدّ، فبمجرّد أن تضع سقفًا على التعبير تخنقُ الخيال. يقول أحد كتّابي المفضّلين إلْوِنْ برُوكس وايت: "في الدولة الحرّة من واجب الكُتّاب أن لا يكترثوا بالواجب". لطالما أحببتُ هذه المقولة، لكنني أعتقدُ أنها تستوجب استدراكًا؛ فثمّة واجب: أن تكون صادقًا مع نفسك.   
       قد يبدو ما أقوله هدّامًا أو من هَوى النفس. وَلْيَكُن. فجوهرُ حرية التعبير والفنّ أن يكون العقلُ الذي يطرح الكلمةَ طليقًا وغافلًا عن نتيجتها. وهذا يقتربُ جدًا من حدود اللامسؤولية (من وجهة نظر السلطة الخارجية على الأقل)، لكنّ هذه هي الحدود عينها التي ينبغي أن ينشأ فيها التعبيرُ والفنّ إن أُريد لهما الكمال.   
       ولكن لحظة. ألا يناقضُ هذا ما قلتُه قبل لحظاتٍ من أنّ الأمر سيكون درسًا في التزام المرء بالمسؤولية عن كلامه؟. بلى، هو تناقض فعلًا، لكنّه تناقضٌ لا ينتقص من صواب الحجّة. هي علاقة جدليّة تبثّ الروح في الديمقراطية والفنّ؛ فالوفاءُ النَزِقُ للحقيقةِ مُترعٌ بالمخاطرة والالتزام معًا. التعبيرُ في حدّ ذاته هو الذي ينبغي أن يكون في المساحة الآمنة، سواء أكان ذلك على مستوى الصفّ أم داخل الطالب نفسه.
       لو تلفّظ الطلاب في صفّي بشيءٍ جارح وإنْ كان تعبيرًا عنصريًا خفيًّا أو سافرًا (وهذا لم يحدث حتى الآن) فعليهم أن يستملكوا كلماتهم، ويتهيّؤوا للدفاع عنها، ويكونوا مستعدّين لقبول العاصفة التي قد تنشأ عن ذلك. وإنْ دعتْ الضرورة قد أتدخّل، لكنني لن أدين أحدًا بتجاوز الحدود ولن أنقذ أحدًا. هذه طبيعةُ الديمقراطية وحرّية التعبير، والتي هي في اللغة الإنگليزية (كلام مجّاني = free speech) لفظة مغلوطة، لأن التعبير لا يكون مجانيًا بل عادةً ما يكون له ثمن باهظ.
       إنّ فرض الحدود على الكلمات خطرٌ على الفنّ وتقويضٌ لمبادئ الديمقراطية، ونحن الذين نقف في مقدّمة الصف نشكّلُ (بوعيٍ أو دون وعي) نموذجًا للديمقراطية. هذا هو الدرس الأشمل لكلّ محاضرة. طريقة تصرّفنا، والقيود التي نفرضها، والأسلوب والطرق التي نتبنّاها، وتعاملنا مع الخلافات، والتمرّد والتحدّي، كلّ ذلك جزءٌ من درسٍ لا يُذكر في توصيف المقرّر أو الهدف المتوخّى منه، لكنّ أهميته أكبر منهما. وكما يُدرك الآباءُ والأمهات في وقتٍ متأخّر جدًا، فإنّ الشباب يتشرّبون وينسخون، لا أقوالنا فقط بل كذلك سَيرنا وسلوكنا وإيماءاتنا، فهذه هي الأشياء التي تعبّر عن قِيَمنا المثلى التي نتمسّك بها. نحنُ في الحقيقة ننقلُ الأفكار لا شعوريًا على نحوٍ أكبر مما نعتقد. فإنْ تصرّفنا وكأنّ الناس لا بدّ أن يخافوا من الكلمات، فسوف يخافون منها.
       وإنْ آمنّا بالديمقراطية فعلينا أن نؤمن بأنها بطبيعتها تصحّح نفسها. علينا أن نؤمن بأنّ الناس أحرارٌ في أنْ يردّوا علينا أو يهاجمونا أو يتجاهلونا أو يُعرضوا عنا. بيد أنّ هناك فرقًا جوهريًّا بين إعراض المجتمع والعقاب الرسميّ، بين العقوبات التي يفرضها زملاؤك وبين أيدي الدولة الثقيلة، سواء أكانت هذه الدولة حكومةً أم جامعة. ينبغي أن يُترك الإجراء التصحيحيّ للفرد، لا للمؤسسة. وبذلك تبقى القوّة حيث ينبغي أن تكون، مع المواطنين. وفي الصفّ التعليمي تكون مع الطلاب.         
       إنْ كان الطلاب بعد كل هذه السنين قد ألفوا التعامل مع السلوك غير الشائع، واحترام الآخرين واحترامي (وقد فعلوا)، فلماذا أثير المشكلات وأصرّ على توضيح سياستي المتعلّقة بحرية التعبير؟. أهي مجرّد لفتة تعليمية لا معنى لها؟.
       لا. إنّ النطق بحقّ حرية التعبير في حدّ ذاته مفيد. فمجرّد المعرفة به تملأ الصفّ بالحياة وتحرّر العقل وتسمح له بالتجوال أينما يريد وتحثّ الطلاب على التأمّل في ديناميكيات التعبير غير المقيّد، بدلًا من اللجوء إلى التوصيفات المسبّقة الآمنة لدى أولئك الذين يرتعشون خوفًا مما قد يتلفّظ به الآخرون.    هل يعرّض هذا الطلاب من الأقلّيات والنساء والمثليين والمتحوّلين جنسيًا إلى الشعور بالقلق؟. هل يخلق بيئةً خطيرة يصعب فيها التعلّم وتستحيل فيها الراحة النفسية؟. لا يمكنني ولستُ مخوّلًا بالإجابة نيابةً عن هؤلاء جميعًا، لكنني كيهوديّ جرّب في سنوات دراسته معاداةً سافرةً للساميّة وتهجّمًا من زملائه ومدرّسيه، أدركتُ أنّ هذا النوع من التعبير بقدر ما هو مؤلم إلا أنه أتاح لي أن أعرف الناس الذين كانوا معادين للساميّة، وأتاح لي (إن أردتُ) أن أناقشهم وأُسائل عقولهم على الأقل إن لم أستطع تغييرها. فالتظاهر بأنّه لا توجد ذرّة من التعصّب فينا جميعًا، وأننا نعيش في مجتمع تجاوز العنصرية وكراهية المثلية والتعصّب ضدّ الجنس الآخر، يستلزمُ تعطيلًا للعقل لا يفعل شيئًا سوى أنّه يُطيل من أمد السموم الاجتماعية الموجودة أصلا. ونحن ندفع ثمنًا باهظًا جدًا لهذا الوهم.            
       عودًا إلى موضوع المقرّر الدراسي، أقول إنّ الكتابة غير الأدبية ليست معنيةً فقط بالدّقة بل بالصدق أيضًا، وليست معنيةً بزُخرف الكلام عن الحياة الأميركية بل بجروحها المفتوحة أيضًا. والتحكّم باللغة يخنق هذا المسعى.
       بالتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا (النبيلة والخسيسة) نسيرُ على درب التقدّم الثقافيّ ونُبدي مستوى إيماننا ببعضنا وبأمّتنا، ونستطيع الترويج للمبادئ الديمقراطية والفنّية التي نثمّنها. لا يوجد كلام أقوى من المكتوب إلا الكلام المقموع.  
إذًا، قل ما تريد ومرحبًا بك في المحاضرة.


*تِد گَب أستاذُ الصحافة في كلية إمرسن ومحاضرٌ زائر في جامعة براون. من بين كتبه أمة الأسرار: التهديد على الديمقراطية والأسلوب الأميركي في الحياة (2007م).
*نُشر هذا المقال في موقع (The Chronicle of Higher Education) بتاريخ 30 أغسطس 2016م.          

الأحد، 15 مايو 2016

مصر مش تونس..وعُمان ليست لندن



حين اندلعتْ أحداثُ الثورة المصرية في يناير 2011م، ظهر في وسائل الإعلام المصرية إعلاميون وكتّاب يقولون "مصر مش تونس"، تعبيرا عن رفضهم للمظاهرات الاحتجاجية التي قد تصل إلى المطالبة بإسقاط النظام كما حدث في تونس. كان هؤلاء يحاولون "إفهام" المصريين أنّ مصر لها "خصوصيّتها"، وأنّ أوضاع مصر ليست كتونس، وأنّ رئيس مصر ليس مثل زين العابدين بن علي. لا أريد الخوض هنا في تفاصيل الثورة المصرية ولا أحاول إسقاط ما حدث هناك على الواقع العُماني، بيد أنّني أقتبس عبارة "مصر مش تونس" وما تنطوي عليها من مفاهيم لتحليل خِطابٍ بدأ يتزايد في عُمان مع أحداث الاعتقالات الأخيرة.

تابعتُ كغيري كثيرا من الكتابات والتعليقات التي ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي حول موضوع اعتقالات الكتّاب ومسألة انتقاد الحكومة، وقرأتُ مجموعة من التعليقات التي تصبّ في فكرة واحدة مفادها أنّ المثقّفين والكتّاب في عُمان كثيرا ما يقعون في مشكلة فِكرية حين يجهلون أو يتجاهلون خصوصية الدولة التي ينتمون إليها والمجتمع الذي يعيشون فيه، وأنّهم ببراءة أو سذاجة يريدون استجلاب نموذج من بيئات سياسية غربية وإسقاطه دفعةً واحدة على الواقع العماني، غافلين عن أنّ لكل دولةٍ قوانينها التي تراعي خصوصية مجتمعها وظروفه، وأنّ ما يصلح في نيويورك ولندن (مثلا) لا يصلح في عُمان. فطبيعةُ المجتمع وثقافته ومستوى تعليمه وطريقة تعامله مع الآراء الأخرى لا تتناسب مع ما قد يكون أمرا معتادا في دول أخرى قطعت أشواطا بعيدة في العمل السياسي والتشريعي والتقدّم التعليمي وما إلى ذلك.

أودّ قبل كل شيء أنْ أوضّح بأنني حين أستعير مقولة "مصر مش تونس" فإنني لا أشكّك في نوايا أحد بل أفترض دائمًا حُسن النوايا والرغبة الصادقة في مصلحة الوطن، كُلاً من منظوره. لكنّ هذا لا يعني أنّ هذه المقولة وما تجرّه من دلالات تخلو من مشكلات فِكرية ينبغي التنبّه عليها.

فأولا: هذا الرأي في حقيقته لا يقول شيئا ذا معنى؛ فمن البديهي أنّ لكل دولة قوانينها التي تخصّها ولا تخصّ غيرها، ولا توجد دولتان في العالم تتطابقان في القوانين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا حين نسلّمُ بوجود تشريعات لا تنسجم مع مجتمعاتنا (لأسباب متعددة دينية وثقافية وغيرها)، فهذا لا يعني أن نترك ما تُحاول تلك التشريعات تحقيقه من حفظ الحقوق والحرية والكرامة الإنسانية، بل علينا أن نضع اجتهادنا التشريعيّ الخاص الذي يتلاءم مع ظروفنا وتطلعاتنا شريطة أن يحافظ على مبادئ الحقوق والحرية والكرامة الإنسانية، إذْ لا يجوز القول إنّ هذه المبادئ الإنسانية تحقّ لغيرنا ولا تحق لنا!

ثانيا: القولُ بأنّ مجتمعا ما ليس مستعدًا أو جاهزًا للحرية أو الديمقراطية لا يستند إلى أي دليل منطقيّ أو تاريخي، ولا يعدو أن يكون مُغالطةً فكرية ينبغي مراجعتها. فالتغييرُ لا ينظرُ في الاستعداد المفتَرض بقدر نظرته إلى دفع الضرر وجلب المنفعة؛ إذ إنّ حجم الضرر والمنفعة للإنسان هو الذي يحدّد ما إذا كان الوضع يستحق التغيير أم لا. والتغييرُ الذي أتحدّث عنه ليس بالضرورة تغييرا جذريا، وإنما يُمكن أن يكون تدريجيا، بشرط الاتفاق على ذلك بين أطراف المعادلة. ولمن يقول إنّ مجتمعاتنا العربية ليست جاهزة للديمقراطية وحرية التعبير (وهو قولٌ طافح بالعنصريّة الذاتيّة) أستعير حجّة المفكر العربي عزمي بشارة حين قال فيما معناه: "من قال أصلا إنّ شعبًا من الشعوب على مرّ التاريخ كان جاهزًا للديمقراطية؟ الديمقراطية تأتي دائما عن طريق طليعةٍ أو نخبةٍ تنادي بالحقوق والحريات عبر جهودٍ سياسية طويلة إلى أن تفرض الديمقراطية على النظام الذي لم يكن ديمقراطيا". والأمرُ نفسه ينطبق على حرية التعبير، التي ما يزال لها معارضون ومقاومون حتى في الدول الراسخة في الديمقراطية، لكنّ المبدأ نفسه يظلّ قائمًا في حفظ الحقوق.

نعم، عُمان ليست لندن، لكنّ العُمانيّ لا ينبغي أن يكون أقل كرامة من اللندنيّ. فلتكن لنا تشريعاتنا وخصوصيّتنا، لا بأس، لكن من غير المقبول أن نجعل هذه الخصوصية مبررا لانتهاك الحقوق والكرامة.

الاثنين، 2 مايو 2016

عن الأيادي الأمينة



عن الأيادي الأمينة

من المقلق جدًا في أي مجتمع مدنيّ أنْ تكثُر الأصوات التي تشجّع الأجهزة الأمنية وتقرُّها على اعتقال الكتّاب، بدعوى أنّ هذه الأجهزة إنما تعمل على حماية الوطن، وأنها تعرف ماذا تفعل، وأنّ لها الحق في التحقيق مع الكتّاب وغيرهم، وأنّ المعتقلين في "أيادٍ أمينة" وسيخرجون بسلام، فلا داعي للتهويل. ثمة كلام هنا ينبغي أن يُقال لإعادة التفكير في بعض المفاهيم.

لئن كانت الأجهزة الأمنية تسعى إلى حماية الوطن، فهذا هو الهدف من وجودها أساسا، ولا ينبغي التشكيك في وطنية العاملين فيها أو التحريض عليهم. هذا كلام مفروغ منه، لكنّه لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ هذه الأجهزة هي وحدَها من يريد الحفاظ على الوطن، أو أنها معصومةٌ وعلى حقٍ دائما. فالأجهزة الأمنية جزء من مؤسسات الحكومة، تلك المؤسسات التي لا يكاد يمرّ يومٌ دون أن نلومها وننتقدها على صفحات الجرائد وفي البرلمانات ووسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً حين يتعلق الأمر بمظلمة شخصية أو أوجه قصور نتضرر منها. إذًا فالأجهزة الأمنية مؤسسات بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، نحيّيها على القيام بواجبها، وننتقدها في جوانب أخرى.  

أما القولُ بأنّ المعتقلين في "أيادٍ أمينة" فلا معنى له إطلاقًا؛ إذْ من الطبيعي أن يكون كل مُعتَقلٍ أو مُحتَجَزٍ أو سجين في أيادٍ أمينة، ولو حصل غير ذلك يكون خرقًا للقانون وتنبغي المحاسبةُ عليه. أن تكون في "أيادٍ أمينة" هو حقٌ مكفول لك أساسا، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون مبرِّرا لاعتقالك أو حبسك. ولا ينبغي أن نبرّر الاعتقال بدعوى أنّ الأجهزة الأمنية عندنا لا تمارس التعذيب؛ فهذا كلام بائس للغاية يوحي بأنّ المشكلة الوحيدة التي تجعلنا لا نقبل السجن هي التعذيب!

قد نتفهّم أن يبرّر بعض الإخوة التحقيق مع الكتّاب، ولكن ما يصعب تفهّمه هو التبرير لاحتجازك (وأنت بريء حتى تثبت إدانتك) أيامًا وأسابيع بدعوى التحقيق، وكأنك إرهابي ستهرب من البلاد أو تشكّل خطرًا على سلامة المواطنين.  

وأما القولُ بأنّ حرية التعبير ليست مُطلقة، فهذا كلام مفروغٌ منه أساسا، ولا يوجد بين أعتى دعاة الليبرالية وحرية التعبير من يفكّر بهذه الدرجة من الصبيانية. المنادون بحرية التعبير ينطلقون أساسا من مبدأ الحفاظ على الحقوق والحريات، لذلك من الطبيعي أن توجد قوانين تُدين بعض أنواع التعبير العنصرية والطائفية مثلا للحفاظ على حقوق الآخرين وسلامتهم.

من المؤسف أن تظهر أصوات من بينها أصوات كُتّاب تغمز بتأييد الاعتقالات، بدعوى أن الوطن خطٌ أحمر. والسؤال هنا، من خوّلكَ قاضيا تحكم بأنّ الكاتب الفلاني قد تجاوز الخط الأحمر؟ وهل هذا الخطّ الأحمر واضح تماما أصلا؟ وهل تستطيعُ أنتَ أن تُقسم قسما قانونيا على أنّ الكاتب كان يقصد المعنى الذي فهمته أنت؟ ثمة جانب أخلاقي ينبغي علينا مراجعته قبل التحريض على اعتقال شخص بريء. 

من واجبي كإنسان نحو كل البشر أن أستنكر وأعترض على اعتقال أي شخص بسبب رأيه. ليس معنى ذلك أن نتساهل مع كل أشكال التعبير العنصرية والطائفية مثلا، ولكن علينا -كما يقول تشومسكي- الحذر من أن نمنح جهةً تنفيذية الحقّ الكامل والحصريّ في تفسير ما يكتبه الكتّاب وتحديد ما ينبغي أن يُقال وما لا يُقال وما هو التاريخ الصحيح، وأن تُعاقب من يحيد عن ما تريده. ببساطة، ومن أجل حفظ القانون وكرامة الإنسان، لا أريد لحكومةٍ، أيا كانت تلك الحكومة، أن تملك سلطة بهذا الحجم. من حقّ الناس أن يكون لهم رأي (عبر برلماناتهم) في القوانين، وأن يكون الفيصل في أي نزاع هو القضاء المستقل. 

الأربعاء، 20 أبريل 2016

عبدالله حبيب...وحرّية التعبير


عبدالله حبيب..وحرية التعبير

يقول لي أحد زملائي مستنكرًا: "أوتريدني أن أتضامن مع عبدالله حبيب؟ ما كتبه عن انفصال ظفار كريهٌ وبغيضٌ ولا يمكن أن أدعو لحرّيته في قول شيء كهذا". فقلتُ له: "بل لهذا السبب تحديدًا يجدر بك أن تتضامن معه؛ فلا معنى لأن تتضامن مع حرّيته إن كنتَ توافقه على رأيه. وإن تضامنتَ معه لأي سببٍ آخر (لأنّه كاتب وسينمائي كبير، أو لأنه يمكنك تفسير ما قاله بحسن نية، أو لأنه صديقك) فيجدر بك أن تراجع نفسك فورًا، وتنسحب من مهنة التدريس الجامعي!".

لا يكادُ يكون هناك معنى لـ"حرية التعبير" إن لم يكن ذلك التعبير خارج المألوف والمقبول؛ فنحنُ إنّما نختبرُ إيماننا بالحرية حين يكون المستفيدُ منها هو الآخر الذي نختلف معه ولا نرتاح لما يقوله. أمّا إنْ كنا نسمح بحرية التعبير لمن يوافقنا الرأي ويسير على نهجنا، فنحن في الحقيقة ندعو لشيء آخر لا يمكننا أن نسميّه "حرية".

بإمكانك أن تفسِّر ما قاله عبدالله حبيب كما تشاء، وأن تصفه بما تشاء، فمن حقّك أن تعتبره كلاما غيرَ مسؤول، أو غيرَ منطقيّ، أو حتى سخيفًا، من حقّك أن تعتقد فيه ما تشاء، ما دام هذا رأيك أنت، دون أن تحتاج إلى من يفكّر عنك أو يحميك من ذلك "الرأي" الذي طرحه عبدالله حبيب. فهو (أي عبدالله حبيب) لم يدخل عقلك ليفرض رأيه، ولم يحمل سلاحًا أو يحرّض على عنفٍ كي تحتاج إلى حكومةٍ تحميك منه.

وإن كنتَ ترى أنّ حرية التعبير لها حدود وأنّ الدولة من حقها أن تمنع انتشار بعض الآراء التي تعتبرها خطيرة، فأنتَ في حقيقة الأمر لا تنظرُ إلى مجتمعك إلا على أنه مجموعة من الأطفال الذين ينبغي حمايتهم أو السُذّج الذين ينبغي حمايتنا من حماقتهم. إن كنتَ تخشى من انتشار فكرة، فلأنك تشعر بعجزٍ من مواجهتها ودحضها بفكرة أخرى أقوى منها، أو لأنك تعلم أنّ هناك عقولا مستعدة لتقبّل تلك الفكرة، وهنا ينبغي أن تشغل نفسك بتصحيح الفكرة وليس بإسكاتها.

بعد ستة وأربعين عامًا من التعليم في عُمان، ليس من المشرّف أبدًا أن نشعر بحاجةٍ إلى من يحمينا من الأفكار والآراء، وليس من المشرّف أبدًا اعتقالُ صاحب رأي. قُل ما تشاء، ولديّ عقلٌ أميّزُ به، عقلٌ يحميني وليس جهاز أمن.

أتضامنُ مع حرية عبدالله حبيب، احترامًا لعقلي أولا.
   

  

الأربعاء، 13 أبريل 2016

طعمُ عالمي السينمائي: حوار مع عباس كيارستمي




طَعْمُ عالمي السينمائي(1)
حوارٌ مع السينمائي الإيرانيّ عبّاس كيارستمي(2)

ترجمة: أحمد حسن المعيني
*
كيف بدأتْ رحلتك؟
وُلدتُ عام 1940م في طهران لأسرةٍ كبيرة كنتُ فيها الولدَ الأكبر. وكأي طفلٍ آخر، أو كإخوتي على أية حال، انصبّ اهتمامي الأولُ على الرسم، وأخذ هذا الاهتمام ينمو ويقوى. وحين قدّمتُ أوراقي للجامعة حاولتُ الانضمام إلى تخصّص طبّ الأسنان وفشلتُ في الاختبار، وأدّيتُ اختبار الفنون الجميلة ونجحت. هكذا قُبلتُ في كلية الفنون الجميلة، لكنني لم أتخرّج إلا بصعوبة بالغة؛ ففي حين أنّ البرنامج مدّته أربع سنوات استغرقني الأمرُ ثلاث عشرة سنة كي أتخرج! من أسباب ذلك أنني كنتُ أعملُ وأدرس في الوقت نفسه، لكنّ السبب الأساسي هو أنني كنتُ ضعيفًا جدًا وغير موهوب. لذلك غيّرتُ تخصصي تدريجيًا إلى صنع اليافطات والرسوم الجرافيكية للإعلانات التجارية وكتابة التترات لأفلام السينما، ومن هنا بدأ اطّلاعي على آلية عمل الكاميرا. في الوقت نفسه دُعيت للعمل على إنتاج رسومٍ لكتب الأطفال، فأصدرتُ كتابين لم ينجحا كثيرًا. وقد كتبتُ القصّتين أيضًا، ولم تكونا سيئتين إذْ إنّ كتابتي أفضل من رسمي لحسن الحظ. بعد ذلك أسّستُ قسم الأفلام في معهدٍ اسمه "كانون" للتنمية الفكرية للأطفال والناشئة، وبدأتُ في صنع أفلامٍ للأطفال بمساعدة صديق. في عام 1970م ظهر أول فيلم قصير لي بعنوان خبز وزقاق (12 دقيقة) يحكي عن صبيّ يُرسِله أهله ليشتري خبزا ويعود، لكنّه يصادف في الطريق كلبًا فيتملّكه الرعب رُبّما للمرة الأولى في حياته، إلى أن استطاع أن يجد طريقة لتجاوز الكلب والوصول إلى منزله. كان هذا أول أفلامي.

ماذا عن أول أفلامك للكبار؟
لو كنتُ حَكَمًا جيدًا على أعمالي لقلتُ إنّ جميع أفلامي اللاحقة كانت عن الأطفال أكثر منها للأطفال. في كل مكان في العالم يحبّ الأطفالُ الأفلام الكوميدية والمرح والقصص الخيالية والكرتون، أما أفلامي فكانت منذ البداية بعيدة عما يحبّه الأطفال. لذلك أقنعتُ نفسي بأنّه في زماننا هذا من الأنسب صُنع أفلامٍ عن الأطفال بدلا من صنع أفلامٍ للأطفال، لأنّ تلكَ تقدّم للكبار درجةً من الوعي وتحثّهم على إيلاء عناية أكبر بعالم الأطفال والدخول إلى بُعدٍ آخر وشكلٍ آخر من الفَهم. أما أول فيلم صنعتُه خارج معهد "كانون" فكان التقرير عام 1977م، لكنني واصلتُ صنع أفلامٍ عن الأطفال برعاية المعهد إلى ما بعد الثورة. كان المعهدُ يشاهد الأفلام بعد عرضها على الجمهور، أي لم تكن ثمّة رقابة علينا. ولكن بعد ثلاث عشرة سنة من العمل مع المعهد اضطُررتُ إلى تركه بعد أن حدثت ثورةٌ أخرى، ثورةٌ ثانية إن صحّ التعبير. والسببُ في ذلك أنني في عام 1989م صنعتُ فيلما بعنوان الواجب المنزليّ عن تلاميذ المدارس، واعتُبر الفيلم مثيرا للجدل بالنسبة للنظام التعليمي الحكومي(3).

لماذا؟
لأنّ الفيلم يشكّك في النظام التعليمي وطرق التدريس، ووزارة التعليم لم تكن معتادة على النقد، لذا كان ردّ فعلها قويًا على الفيلم وعليّ وعلى مدير معهد "كانون"، فاضطُررتُ لترك العمل مع المعهد. بحلول هذا الوقت كان أطفالي قد كبروا وخطر لي أنّ دورة حياة الأطفال قد اكتملت وعليّ أن أقصر عملي منذ الآن على الكبار. بيد أني تعلمتُ كثيرًا في السنين التي عملتُ فيها مع الأطفال. تلك البساطة المخاتِلة، مع ذكائهم الحادّ، وحسّهم بالمرح المتحرر من ثقل العادات والتقاليد. قلتُ لنفسي سأحتفظ بهذا كلّه وأستعير نظرتهم كما هي خلف كاميرتي، وأضعه أمام أعين الكبار.

ما الذي بعثك على صنع فيلم الواجب المنزلي؟
ظهر هذا الفيلم بوَحْيٍ من فيلمي أين بيت الصديق؟، ويحاول أن يرصد حيوات أطفالٍ بعد انقضاء يومهم الدراسي. يتحدّث عن المشكلات التي يسببها المعلمون للأطفال وعن عجز الآباء والأمهات الأمّيين. جمع الفيلم قرابة ثلاثين أو أربعين طفلا (كما في فيلم بيت الصديق) يعانون جميعًا من ضعف الاستيعاب ومن ضروب اللاطمأنينة التي تجتاحُ الكبار من حولهم. هو عالم الأطفال المستقل بإزاء عالم الكبار الباهت، والكبار هنا ليسوا مذنبين على أية حال لأنهم هم أنفسهم عاشوا في ظروف اقتصادية واجتماعية مروّعة بعد الحرب.

لماذا قرّرتَ البقاء في إيران بعد الثورة؟ وهل كان بالفعل قرارك؟
في حوالي عام 1978م فقد جميع صنّاع الأفلام أعمالهم، واستمرّ الحال هكذا ثلاث سنوات أو أربع، إذْ لم تكن هناك فرص لصنع فيلم في أعقاب الثورة. السينما نفسها كانت محل تساؤل كبير: كيف ستتطور، وهل ستبقى أساسا؟ لم تكن لدينا آنذاك ثقافة سينمائية مزدهرة، لذلك كان علينا أن ننتظر إعادة تعريفٍ للسينما، وكان علينا أيضا أن نستوعب معطياتٍ جديدة عن الثورة. كانت تلك سنوات من اليأس والخيبة، لذلك كان من الطبيعي أن يقرّر كثير من زملائنا مغادرة إيران. أما بالنسبة لي فحظّي أو لعنتي هي أنني في تلك السنوات كنت أعاني من ثورة داخلية تمثّلت في انفصالي عن زوجتي. هكذا أُلقِيَت مسؤولية طفلين على رأسي، فلم أستطع حتى أن أفكر في مسألة ما إذا كنت سأغادر أم أبقى. وحين أنظر للأمر الآن أرى أنّ ما حدث كان واحدا من أوفر ورطاتي حظًّا إذْ لم يُغرني تركُ إيران. لقد فرضَ القدرُ عليّ هذا الأمر فبقيتُ وتكيّفتُ مع الأوضاع ورأيتُ أنه يمكنني متابعة عملي.

بقاؤك في إيران وحبّك لبلدك، كيف يؤثران على الصبغة الوراثية لأفلامك إن صح التعبير؟ ومن هو المتلقّي المثالي لك في إيران؟
أفلامي من دون شكّ إيرانية بامتياز؛ فهي تحكي عن إيرانيين، والواقف خلف الكاميرا إيرانيّ، واللغة فارسية، والجغرافيا إيرانية، والقضايا الاجتماعية واليومية إيرانية. السؤال لدى بعض الناس هو ما إذا كانت هذه الأفلام قد صُنِعت لمتلقٍ إيراني. وهنا لا بد أن أقول بأنني ببساطة شديدة أصنع أفلامي، بينما هي التي تجد طريقها لمشاهديها. يحدث أحيانا أن يكون هؤلاء المشاهدون من الحيِّ الذي أسكن فيه، وفي أحايين أخرى يكونون من بلاد أخرى. في فيلم الواجب المنزلي مثلا، عرضتُ الفيلم أول مرة في مهرجان روتردام للأفلام، وكان تجاوب المشاهدين مع الفيلم قويًا لدرجة أنني أيقنتُ بأنّ نصف الحضور إيرانيون. ولكن حين سألتُ عرفتُ أنه لم يكن من بينهم سوى إيرانيّ واحد فقط! مع ذلك فقد استوعبوا الفيلم لحظة بلحظة، بل إنّ سيدةً من أمريكا الجنوبية بكت وقالت لي إنها حين شاهدت الفيلم ذُهِلت من درجة التشابه مع الوضع القائم في بلادها. فالنظام التعليمي الذي يتناوله الفيلم لم يكن ينطبق على إيران وحدها بل على العديد من الدول الأخرى، ولعلّ هذا من الأسباب العديدة التي تجعل مجتمعات هذا العالم مريضة لهذه الدرجة؛ لأنّ هؤلاء الأطفال الألمعيين بالفطرة والمرحين بالفطرة يُعاملون بطرق قاسية للغاية تحكمها مبادئ تعليمية خاطئة جدا. وهذا بطبيعة الحال يقودهم إلى اليأس من متابعة تعليمهم. باختصار، لا أقصُر المتلقّين لأفلامي على جغرافية إيران وحدها، ولئن فعلتُ سأكون مخطئًا جدًا. إذْ أننا لو نظرنا إلى صناعة الأفلام بوصفها فنّا، سندرك أنّ من الضروري أن يوجد بها شيءٌ يتماهى معه المتلقّون أيا كان مكانهم في هذه القرية العالمية. لذلك لا يوجد شيء جوهريّ متأصل في المشاهد الإيراني يجعله بالضرورة أفضل متلقٍّ لأفلامي. في حقيقة الأمر أصنّفُ المشاهدين الإيرانيين في عدة فئات؛ فهناك مثلا "المفتونون بأمريكا" الذين شاهدوا الكثير جدا من الأفلام الأمريكية ولهم توقّعات معيّنة فيبحثون عن تسلية وإثارة بـ"الأكشن"، وأفلامي طبعا لا تقدّم ذلك. لكنني شيئا فشيئا بدأتُ أدرك أيضًا أنه لا يمكن الجزم بأنّ أبناء بلدي "المتنوّرين" أو المثقفين أو هواة الفن يتذوّقون أعمالي. لديّ صديقٌ معماري ذكيّ يعرف جيدا معنى الفنّ، لكنّه يكره أفلامي! قال لي مرة إنه يفضّل العشاء مع صهره على أن يشتري تذكرة لأحد أفلامي. في الجهة الأخرى، قابلتُ ذات مرة امرأة إيرانية غير أمّية أخبرتني أنها مرّات ومرّات حين ينام أطفالها لا تشغّل إلا فيلمين فقط: مقش شب (هكذا نطقتها بدلا من مشق شَب، العنوان الفارسي لفيلم الواجب المنزلي)، و كُولُس اب (كما نطقتها بدلا من كلوز أب [لقطة قريبة]، اسم فيلمي). لذلك لا يمكنني أن ألقي تعميمات اجتماعية وثقافية لأؤكد أنّ "المتنوّرين" فقط يحبون أفلامي. الذين يحبّون أفلامي هم أولئك الذين تتناسب أطوالهم الموجية إن صح التعبير مع هذا النوع من السينما، وليس للأمر علاقة بمدى ثقافتهم أو اطّلاعهم الفني.            

أفلامُك مشبَّعة بالشِعر، وذات بنية مفتوحة. كيف يؤثر هذا على فِعل المشاهدة لدى المتلقي؟
بنية أفلامي هي بنية الشعر. في الكتب المدرسية كانت هناك قصائد تقدّم محتوى بسيطا عبر إيقاع وقافية. بالنسبة لي هذه ليست في الحقيقة قصائد. كثيرٌ منها يخلو من النهاية المفتوحة، كما أنّ لها خلاصة واضحة مباشرة. القصائد في رأيي كيانات لها بنى مفتوحة، وهذه أكثر ديمومة لأنّ القراء يستطيعون تفسيرها بأنفسهم وفقا للحاجات النابعة من دواخلهم ومن وعيهم بذاتهم وتأملاتهم. ولذلك علاقة مباشرة بالمعلومات التي في متناول أيديهم وليس فقط المعلومات المقدّمة لهم. في عالم السينما أيضا أرى أنّ العمل لا ينبغي أن يكون مغلقًا جدا، وأنّ السينما المفتوحة سينما أكثر ديمومة لأنها تقدم فرصة للمشاهد كي يجد نفسه ويُكمل الفيلم بخياله. باختصار أقول إنّ المبدأ الفنّي الذي أعتنقه هو أنّ بنية الفيلم ينبغي أن تظلّ مفتوحة على الدوام بما أنها تدعو إلى حوارٍ دائم التجدّد بين "الإبداع" وعددٍ لا محدود من "المبدعين".  

ألذلك يوجد قدرٌ هائل من الاقتباسات الشعرية في أفلامك؟
الأمر يتعّلق بالثقافة التي نشأتُ فيها. ففي إيران، في أحاديثنا اليومية، لا يقتصر استخدام الشعر على المثقفين أو الشعراء أو حتى محبّي الشعر. عندنا أشخاص بسطاء وأمّيون يردّدون في ثنايا يومهم مقاطع شعرية كي يتواصلوا مع الآخرين ويعبروا عن وجهات نظرهم. الشعرُ في إيران يتدفّق علينا، كالمطر المنهمر، والكلّ يشارك في ذلك. فجدّتكَ حين كانت تريد أن تتبرّم من هذا العالم كانت تبثّ شكواها بالشعر. وإن أرادت أن تعبّر عن حبّها لجدّك كانت تقول ذلك شِعرا، وإنْ كان ركيكًا. قبل فترة، دعاني أمرٌ ما لزيارة حمّامٍ قديم في إيران، فوجدتُ هناك قصيدة منقوشة على الجدار تقول فيما معناه "من عنده شيء ذو قيمة، فليعرني إياه عند الباب، فإن لم يفعل وفَقَدَه في الداخل، فلستُ مسؤولا". هذه العبارة المبتذلة الآن التي نراها في كل مكان قِيلت قديمًا بلغة الشعر، فهذه في الحقيقة قصيدة قصيرة قديمة جدا. ولا تنسَ أنّ الشعرَ هو لغة الثقافة الفارسية، سواء أكان شعر الرّومي أم شعرًا عاميًا. لذلك أشعر أنه من الطبيعي بالنسبة لي أن أستخدم الشعر في أفلامي حين أريد أن أرصد واقع العلاقات اليومية، لأنّ الشعر ببساطةٍ جزءٌ من حوارات الناس، بل حتى من مناجاتهم حين يريديون أن يفرّغوا ما في صدورهم.        

هل تجتذب أفلامك مشاهدين كثيرين في إيران؟ وإلى أي درجة يصعب مشاهدتها في إيران أصلا؟
ثمة صعوبة، للأسف. فمنذ أن بدأتُ أحصد شيئًا من النجاح خارج إيران أصبحت أفلامي مثار ارتياب في بلدي. حين يشاهد "المسؤولون" أفلامي لا يستوعبون شيئًا منها في الحقيقة. أو لنقل هم يفهمونها لكنّ الأفلام بسيطة جدًا لدرجة تجعلهم يتساءلون: كيف يمكن لهذه الأفلام أن تكون جذّابة جدا للغربيين؟ فيظنّون أنه لا بدّ من وجود أمر مريب، أن يكون هناك شيء من السياسة المدسوسة فيها. بل إنني ذات مرة سمعتُ الاتهام الذي يقول بأنّ الغرب يقدّم الجوائز لأفلامي لا لشيء إلا لأنها لا تحتوي على بداية أو نهاية، لذلك تثيرُ بطريقةٍ فنية الإحباطَ في المسلمين. وقد أصبح هذا النمط من التفكير وباء منتشرا. كثيرٌ من الإيرانيين يشعرون أنّ هذه الأفلام ليست أفلاما حقا بالمعنى الكلاسيكي. وينتاب المشتغلين في صناعة السينما الشعور نفسه ولا يجدون فائدة في عرض أفلامي، لذلك أحجموا في السنوات العشر الأخيرة عن توزيع أفلامي. لكن أصدقك القول أنني لا أشتكي من شيء، فمجتمعنا يعاني من المشكلات ما هو أكبر بكثير من هذا الأمر. الاقتصاد مثلا في حالة مزرية، فلو تحلّينا بشيء من الواقعية وسلامة العقل لأدركنا أنه لا ينبغي لنا أن نتباكى لأنّ أفلامنا لا تُعرض. هو أمر مؤسف طبعا، لكنني لو شكوتُ من ذلك أغدو شخصًا لا يعرف المكان الذي يعيش فيه. حين يكون الناس مشغولين بقوتِ يومهم، فما الذي يهمّ فيما إن كانوا يشاهدون أفلامي أم لا. أما أولئك الذين يعشقون السينما، فيمكنهم بعد سنتين من صدور الفيلم أن يشتروا شريط الفيديو أو الدي في دي بثمنٍ أقل بكثير من تذكرة السينما، ويشاهدوا الفيلم في جوٍ أفضل. خذ مثلا فيلمي عشرة، يُباع قرص الدي في دي بـ750 تومان (75 سنتا أمريكيا)، أي أقل من تذكرة السينما بـ250 تومان (25 سنتا). يمكن لصاحب القرص أن يعيره للآخرين، وهكذا فالقرص الواحد قد يشاهده عشرات الناس. لذلك أعتقد أنّه لم يعد بمقدور الحكومة أن تمنع أفلامنا أو تمارس رقابة باتّة علينا. يمكنها أن تعاقب، أي أن تعمل على أن لا أحصل على شيء من الأرباح كي لا أستطيع إنتاج أفلام أخرى. أما المنع فقد ولّى زمانه.        

ما هو الوضع الحالي للرقابة في إيران؟
فعليّا حلّت الرقابة محلّ المنع المطلق، وكأنهم قد قرروا ذلك عن قصد. فمثلا، في فيلمي عشرة طلبوا مني أن أحذف نصف ساعة من النسخة النهائية. أما فيلم ستحملنا الريح فلم يجدوا شيئا يستطيعون حذفه فقالوا: احذف مقطعين من شِعر فروغ فروخزاد، ولم أكن لأفعل ذلك طبعا. في الحقيقة لم يكن شِعر فروخزاد هو المشكلة، بل تسلسل المشهد نفسه، فقد زعموا أنه عبارة عن بورنوغرافيا (إباحية). حين كانت الطفلة الفقيرة تحلب بقرتها كان الولد بعيدا عنها وكان واضحا أنه يتحدث معها [يلقي شعر فروخزاد]، لذلك فحتى في الظلام لا يمكن له أن يستغلها جنسيا أو أن يفعل أي شيء. ولكن على أية حال مُنع الفيلم بسبب هذه المشاهد، وما يزال ممنوعا.   

ألم تستطع عرض فيلم طعم الكرز في طهران؟
بلى، استطعتُ عرض هذا الفيلم بسبب ما سقتُه من تبريرات وشروح في تلك المرحلة. فشرحتُ لهم أنّ الفيلم ليس عن الانتحار. في الحقيقة بدأت مشكلاتي بعد الجائزة التي حصلتُ عليها في مهرجان كان. الأمرُ ببساطة شديدة هو أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا كيف لفيلم كهذا خالٍ من الحِدّة الدرامية الواضحة أن يفوز بجائزة بذلك المستوى. هكذا أصبح هذا الفوز أساسًا مثاليا لسوء تفسير العلاقة بيني وبين الجمهور "الغربي"؛ فقد تخيلوا وجود صلات سرّية ورشاوى و...

أذكر أنّ النقاد في أوروبا زعموا قبل بضع سنوات أنّك في أفلامك قبل طعم الكرز اخترتَ العمل مع الأطفال متعمدا لكي تنجو من الرقابة. هل هذا صحيح؟
كلا، ليس للأطفال علاقة بالأمر. يكفي أن تنظر إلى مسيرتي المهنية، فأفلامي قبل طعم الكرز حصلت على بضع جوائز صغيرة هنا وهناك، لكنّها لم تلفت انتباه النظام إليّ. بيد أنّ الريح تحوّلت فجأة مع فيلم طعم الكرز، ليس بسبب ثيمة الانتحار وإنما لأنهم لم يهضموا أبدًا فكرة أن يفوز فيلم كهذا بالسعفة الذهبية. قبل ذلك لم يكونوا يتدخلون في عملي إطلاقا.

ولكن في هذا الفيلم (الذي شكّل قطيعة مع "دورة حياة الأطفال") ألم تكن فكرة الانتحار إشكاليةً للغاية بالنسبة للجمهورية الإسلامية؟
ما تزال الفكرة مشكلة، لكنّ الفيلم شفّاف جدا من الناحية البصرية لدرجة مكّنتني من إقناع الرقباء بأنّ هذا الفيلم ليس عن الانتحار وإنما عن جوهر الحياة، عن خيارك في أن تحيا. لا أعرف الذي دار في عقولهم آنذاك لكنّهم عرضوا الفيلم. ومع ذلك فقد عاقبوني ماليا، لأنّ الشخص الذي يوزّع الفيلم وضع الإيرادات في جيبه وهرب. أما الحكومة التي عليها أن تدعم حقوق المنتجين فزعمت أنّ الأمر لا يعنيها، وبذلك لم يدافع عن حقي أحد. كانت تلك طريقتهم في معاقبتي.

تحدّثتَ قبل قليل عن البنية الشعرية لأفلامك. ألا تعقّد هذه البنية مهمّة الرقباء في إدراك الفنّ وفقًا لمعايير محدّدة وحدِّية؟ هذه المواجهة بين رؤيتك ورؤيتهم تبدو غريبة جدًا وعبثية.
المشكلةُ هي أنهم لا ينظرون أصلا إلى الأفلام بتلك الطريقة. لا يكترثون بالبنية على الإطلاق. لعلّ اللحظة الأكثر حزنًا بالنسبة لي هي حينما طلبوا مني أن أحذف مقطعا لعمر الخيام في فيلم ستحملنا الريح. قلتُ لهم لا يمكنني أن أفعل ذلك، وأنكرتُ عليهم هذا الطلب. فالخيّام ظلّ على مدى القرون فخرًا وشرفًا لبلادنا، وتريدون الآن حذفه! هذه الأبيات موجودة في كل الكتب التي لم تمنعوها. سمحتم بإعادة طباعة الرباعيات مرّات ومرّات عديدة، وهو الكتاب الأكثر تداولا وترجمةً في العالم بعد الإنجيل. كيف إذًا تسمحون لأنفسكم أن تطلبوا مني أن أقطع ولو مقطعًا واحدًا للخيام؟ في النهاية وكما حدث مع شعر فروغ فروخزاد، لم نصل إلى اتفاق. ولكن أقول مرةً أخرى، أرجوك لا تكترث بشكواي. أعي تماما أنّ شكاوى صانع أفلامٍ في بلادي أتفه بكثيرٍ من أن تُسمع، بل إنها تكاد تكون ضربًا من البذاءة.     

الجديدُ في فيلمك الأخير تذاكر (2005م) الذي أخرجته بالاشتراك مع إرمانو أولمي وكين لوتش هو أنك صوّرته في الخارج. هكذا فجأة أصبحتَ قادرا على عرض فتاة مراهقة دون حجاب، ورجل وامرأة في المشهد نفسه. باختصار، أمكنك أن تعمل دون قلق من نظرة الجمهورية الإسلامية. كيف أثّر هذا على عملك؟
أخذ الفيلم مساره الطبيعي، لكنّ طبيعة صُنعي لأفلامي لم تتغيّر. بطبيعة الحال لم ترتد النساءُ في القطار حجابا، لأننا صنعنا الفيلم وفقا لجغرافية أوروبا وأعرافها. ومن نافل القول إنني لم أحضر معي شيطان الرقابة الذاتية الذي أتعامل معه في إيران. لو أنني فعلتُ لكنتُ بحاجةٍ إلى طبيب نفسي! حين قدمتُ إلى إيطاليا لصنع هذا الفيلم كان لزاما عليّ أن أشعر بهذه الحرية. في الوقت نفسه لا أعتقد أنّ هناك تغييرات كبيرة حدثت. ركّاب القطار يلبسون كعادتهم، كما يمكن أن نراهم الآن، ولا أحد يحدّق فيهم. أتعرف، أشعرَ أنّ مشكلتنا في إيران ليست الحجاب نفسه بقدر ما هي "الحجاب الداخلي" الذي لم نتعلم أن نلبسه. شعبُنا لم يعتد على ارتداء الحجاب في عقله وعينيه، لذلك يُلقون بهذه المسؤولية على الآخرين، أي النساء. هنا لا أحد ينظر إلى هذه الرؤوس الحاسرة، هنا ليس لها ذلك المعنى في إيران. لذلك فالفيلم لا يشكّل أية غرابة في رأيي.   

هل تُتعبك المشكلات اللوجستية والقضايا السياسية والدينية التي تتدخل في صنع أفلامك في إيران؟
لا أستطيع أن أدّعي ذلك. أفهم الآن تماما الظروف في إيران وأعرف كيف أتدبر أمري. هذا الفيلم تذاكر مثلا، الذي أنتجه إيطاليون، كان أسهل فيلم صنعته في حياتي. في إيران عملية الإنتاج معقدة جدا ومرحلة ما قبل الإنتاج تتطلب عشرة أضعاف الجهد العادي. فأنت لكي تحاول إنتاج فيلم عليك أن تقف منتظرا في غرف بيروقراطيين قد لا يعرفون أي شيء تقريبا عن السينما. مع ذلك، ورغم ذلك، أظنني أريد صنع أفلامي في إيران. كان فيلم تذاكر تجربة حاسمة، فحين عُرض الفيلم في مهرجان برلين حدث أمر مدهش. في العادة حين يُعرض فيلم لي أول مرة (وهذا ينطبق على كل السينمائيين) يبدأ قلبي يخفق بقوّة خوفًا من ردود الفعل السلبية. وقد ذكر لي أحد المخرجين أنه دائما ما يُصاب بحمّى، وأعترف أنني أمرّ بشيء شبيه بذلك. ولكن حين عرضوا فيلم تذاكر في برلين، فجأةً وفي وسط الفيلم، نمت! حين استيقظتُ أخذتُ أفكر لماذا حدث ذلك. لماذا كان عرض هذا الفيلم غير مبهج؟ حين فكّرتُ في الأمر أدركتُ أنني في أعماقي لم أعتبر هذا الفيلم فيلمي، ذلك أنني صنعته بمشاركة مخرجين أوروبيين، في أوروبا، فاعتبرته فيلما أوروبيا. وبالتالي كنت قرير البال لدرجة أنني غفوت. لكنّ الرسالة التي تعلّمتها هي: صحيحٌ أنّ الفيلم كان ناجحا بما أنه حطّم حواجز لغوية وثقافية، لكنّه ليس فيلمي، إذْ إنني أردتُ فيلمي ناطقًا بالفارسية.    

وحين تتحدث بلغتك في فيلمك، حين تعرض إيرانَك، التي هي شديدة الاختلاف عن إيران التي يراها المرء في نشرة الأخبار، هل تعي أنك تقدّم للمشاهد الغربي وجهًا مختلفا لإيران؟
نعم، من دون شك. إيراني ليس فيها شبه كبير بإيران التي تصوّرها نشرات الأخبار. وأنا مقتنع بأنّ أفلامي أقرب إلى واقع إيران، أي إلى قلبها الاجتماعي والثقافي والروحي. فالأجانب الذين يزورون إيران مثلا يتعلّقون جدا بالفضاء الإيراني، بالحسّ الإيراني في العلاقات الإنسانية. أذكر المرة الأولى التي جاء فيها الكاتب جان كلود كاريير إلى إيران، قال لي إنه سافر في الصحراء وكلما وصل إلى منزل وسأل أهله "هل من استراحة للعابرين قريبة من هنا؟" كان الناس يجيبونه "تفضّل عندنا". دخل كاريير هذه المنازل ورأى أنّ التواصل مع العائلات والأطفال كان طبيعيا للغاية، وكأنّ كثيرًا من الرحّالة مروا من هناك. قال لي: "وصلنا وأقمنا عندهم، ووضعوا لنا العشاء على الأرض. أكاد لا أصدق". هذه إيران. ويحقّ لي أن أقول ذلك لأنني أسافر كثيرا من أجل أفلامي ومشاريعي في التصوير. هذا واقع الطيبة والضيافة. لا يهمّ أنّ المنازل بدائية والناس بسطاء. عن هذا الواقع إنما تتحدث أفلامي، عن عوالم بعيدة عمّا يُقال في الأخبار وعن الصورة المؤسفة التي تقدّمها الحكومة الإيرانية للعالم الخارجي.  

دائمًا ما يشبّهك النقّاد وصنّاع الأفلام في شتى أنحاء العالم بمجموعةٍ من المخرجين الغربيين، فيلّيني مثلا. هل هناك صنّاع أفلام أثّروا في لغتك البصرية؟
هذه مشكلة الصحفيين والنقّاد؛ إذْ يعتقدون أنه إن كان الشيء جيدًا فلا بدّ أنه يشبه شيئا آخر أو على الأقل شيئا أفضل. هي عادة، فكلما أرادوا أن يمدحوك شبّهوك. لا يستطيعون أن يفكروا دون صناديق، وهم دائما مستعدون لإخراج فيلمٍ من الصندوق الفلاني لو أنهم وجدوا فيلما يناسب ذلك الصندوق أكثر. وبما أنها عادة، فلا يمكنني أن أحملها محمل الجدّ. الأكيدُ هو أنني كنتُ دائما مهتمًا بالواقعيين الجدد. أكثر من هذه الملاحظة يصعب عليّ أن أقارن أو أحكم على أفلامي. لا بدّ من مرور ثلاثين أو أربعين سنة، فإنّ ظلّ الفيلم حيًا، إن احتفظ بحيويّته كعملٍ فنّي، فهو فيلم جيد.    

كيف تعرّف نتاج الصَنْعَة الكيارستمية؟
أولا وقبل كل شيء تلك الصبغة الإيرانية لأفلامي. وُلدتُ وعشتُ في إيران وأتحدث الفارسية والمعرفة التي أتحصلُ عليها عن إيران، لذلك ستكون أفلامي إيرانية. حتى فيلم تذاكر ورغم الذي قلته سابقا، لا أعتقد أنه منفصل تماما عن أفلامي الأخرى، على الأقل الجزء الذي أخرجته منه. فمع أنّ الفضاء قد تغيّر، ورغم أنّ البعض قد يشعرون بأنّ الفيلم ليس إيرانيا (لغته ليست فارسية)، لكنّ لغته السينمائية لُغتي. لقطات المناظر الطبيعية، السرد، النهاية المفتوحة، مسألة أننا لا نقدّم كل المعلومات للمشاهد في البداية. لا يكتشف المشاهد طبيعة العلاقة بين الولد والمرأة إلا في منتصف الفيلم وقرب النهاية. أسلوب القصّة فارسيّ بامتياز، فهو نفس الأسلوب الذي نراقب به جيراننا ثم نبدأ في تشرّب المعطيات شيئا فشيئا. هذه ليست طريقة السينما المعاصرة. يعتقد معظم صنّاع الأفلام اليوم والإرث الذي تركته السينما الكلاسيكية بشكل عام أنّك إن لم تقدّم كل المفاتيح للمشاهد في أول 10 دقائق، فستهبط الحدّة الدرامية في فيلمك فورا. باختصار، ينبغي أن يعرف مشاهدوك من الدقائق العشر الأولى ما الذي سيحدث ولماذا، ومن هو الشرير ومن هو الطيب ومن الذي يحكم عليهما. في فيلم تذاكر نقترب من الركّاب تدريجيا بحيث إنّ المشاهد لا يملك من المعلومات حول الشخصيتين إلا ما يملكه بقية الركاب على القطار. أعتقدُ جازما أننا لا يمكن أن نحكي قصة شخصٍ ما ونقطع بأنّنا قلنا كل شيء. حتى حين نريد أن نستلهم الواقع فلا يمكننا أن نحكي القصة كاملة. لذا علينا أن نبقي بعض الأشياء طيّ الكتمان. في قاعة السينما، لا يمكن للمشاهد/المدّعي العام (وهو يوقّع على حكم المحكمة في الدقيقة الأخيرة من الفيلم) أن يجزم بأنه يملك المعلومات القاطعة عن شخصياتي.    

ذكرتَ أنّ الحكومة الإيرانية وصفت مشهد حلب البقرة في فيلم ستحملنا الريح بأنه بورنوغرافي. أحيانا حين نشاهد الأفلام الأمريكية المعاصرة نشعر أنّ مبدأ الكشف الكامل والإمكانية المطلقة للتوقّع هي ضرب من البورنوغرافيا.
نعم، تماما. البورنوغرافيا لا تقتصر على ذلك القالب فقط. ينتابني شعور أننا حين نرى فيلما عن عملية جراحية للقلب مثلا نرى تفاصيل لا يحقّ لأحد أن يراها (ولذلك لا يسمحون لنا بدخول غرفة العمليات). لذلك أرى أنّ في الأفلام أيضا لا ينبغي أن أسمح لنفسي بعرض تلك التفاصيل. البورنوغرافيا ليست الجنس فحسب. البورنوغرافيا قد تكون أيضا تفاصيل علاقةٍ بين رجل وامرأة، تلك التفاصيل التي لا يمكن لهما أن يرياها. فمثلا حين تقبّل امرأة، حين تكون على تلك الدرجة من القرب منها، لا يمكنك في الحقيقة أن ترى التي تقبّلها، لذلك لا يوجد شاهد على ذلك المشهد. فلماذا إذًا ينبغي أن أكون شاهدًا على المشهد بكاميرتي؟ أشعر أنّ البورنوغرافيا مسلك خاطئ اتخذته السينما نتيجة للخيارات الكثيرة التي تقدّمها العدسة. حين تقول لك العدسة: يمكنك أن تقترب لهذه الدرجة من مادتك، فهي غير مبالية أبدًا بحقيقة أنّك حين تحكي قصةً ما، لديك حدود. في رأيي ليس لك الحق في أن تقترب بهذه الدرجة من الموضوع حتى لو سمحت لك العدسة. لكنّ معظم الأفلام المعاصرة تتلقى أوامرها التصويرية من العدسة، وليس من الواقع. لذلك صُورها عارية مكشوفة، وليس لي كمشاهدٍ أي دور فيها. أصبحُ عديم الفائدة.  

هل تشاهد أفلام هوليود الجديدة؟
لا، لم أشاهد هذه الأفلام منذ سنوات.

عودةً إلى أفلامك، هل ثمة فيلم معيّن أقرب إلى قلبك؟
لا يوجد فيلم بعينه، إنّما بعض اللحظات فقط، وهي اللحظات التي لم أركّبها. هي لحظات حدثت من تلقاء نفسها. في هذه الحالة أحبّ أن أجلس في قاعة العرض، أشاهد هذه اللقطات، وأخرج. لكنّ اللقطات التي ركّبتها لديّ سيطرة عليها، وأي شيء تملك سيطرة عليه لا تبقى له سلطة أو تأثير عليك.

يُعرف عنكَ أنك لا تعمل وفقا لسيناريو مكتمل. هل تبدأ بفكرةٍ ثم تمضي الأمور شيئا فشيئا؟
نعم، تكون لديّ فكرة، وأصنع الحوارات. لكنّ كل شيء يكون تحت السيطرة. بيد أنه في بعض الأحيان تحدث لحظة، عرضية غير مهمة. أحيانا يرمشُ بطلي رَمشتين، فأذهب إلى قاعة العرض فقط كي أشاهد هاتين الرمشتين وأخرج. هاتان الرمشتان لا تنتميان إليّ، ولا إلى البطل. لا أدري، هي هديّة. هكذا تظهر مضبوطة وفي وقتها، لدرجة أنني أظلّ أتساءل عن الذي حدث وجعل وجه الممثّل يفرز هذا التعبير. ثمّة لحظة كهذه في فيلم عشرة في الـ17 دقيقة الأولى، حين يكون الولد في السيارة. دائما ما تكون بالنسبة لي مادةً للدهشة، إذْ من المستحيل على الإطلاق أن تمثِّل هذه اللحظات. لذلك أكتفي بمشاهدتها وتقديرها.

هل تريد أن تقول شيئا عن فيلمك الذي تعمل عليه حاليا في إيران؟
أفضّل التأنّي. أريد أن أرى كيف تتبلور هذه الفكرة، لأنني في بعض الأحيان أبدأ بفكرة معينة أتحرك صوبها، ثم أدرك أنّ الفكرة التي أحببتها كثيرًا تحطّمت، وأنّ هناك أفكارًا أخرى حلّت محلها. ربما من الأفضل أن لا أقول شيئا إلى أن يخرج الفيلم إلى النور ونراه بأعيننا.
-----
الإحالات
1-من كتاب: Azam Zanganeh, Lila (ed.) (2006). My Sister, Guard Your Veil; My Brother, Guard Your Eyes: Uncensored Iranian Voices. Boston: Beacon Press.
2-يُعدُّ عباس كيارستمي أبرز السينمائيين الإيرانيين وواحدًا من أشهر المخرجين البارزين على المستوى العالمي. متمكّن من التخلّص من الرقابة في أفلامه بطريقة ذكيّة، وعادةً ما تزخرُ أفلامه بالشعر الإيراني المعاصر وما تتوقُ إليه إيران المعاصرة. حصل كيارستمي على جوائز كثيرة من بينها جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه طعم الكرز عام 1979م. ومن بين أشهر أعماله أين بيت الصديق؟ (1987م)، و لقطة قريبة (1990م)، و الحياة ولا شيء أكثر...(1992م)، و عبر أشجار الزيتون (1994م)، و ستحملنا الريح (1999م)، و عَشرة (2002م).  
3-من تعريف أمين صالح لهذا الفيلم: "وثائقي مدّته 86 دقيقة. يقول كيارستمي بأنّ هذا ليس فيلما بل تحقيق سينمائي استلهمه من المعضلات التعليمية التي واجهها أحد أبنائه والتي كان يسمعها كل ليلة...الفيلم يتألف في معظمه من سلسلة من المقابلات التي أجراها كيارستمي نفسه مع تلاميذ المرحلة الابتدائية، صوّرها في المدرسة، وفيها يتحدث هؤلاء عن الكمّ الهائل من الواجبات المدرسية المرهقة، وعن الإغواء الذي تمارسه أفلام الرسوم المتحركة، وعن المناخ القائم على العقاب لا التشجيع. من خلال هذه الأحاديث نكتشف حجم الأمية والجهل والبطالة وتعدد الزوجات والعنف البدني في الواقع الإيراني...مُنع الفيلم من العرض لثلاث سنوات ثم سُمح بعرضه للبالغين..." (المترجم، عن كتاب: أمين صالح (ترجمة وإعداد)، عباس كيارستمي: سينما مطرّزة بالبراءة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2011م).

الثلاثاء، 12 أبريل 2016

أن لا تقرأ كونديرا في طهران



أن لا تقرأ كونديرا في طهران[1]

بقلم: نَغمه زَرْبافيان[2]
ترجمة: أحمد حسن المعيني
****
في يوم من الأيام في واشنطن التقيتُ بهارولد الذي لا يحبّ الشِعر. وفي مطعم هنديّ أخذ يحدّثني عن السياسة التي لا تهمّ عقلي على الإطلاق، لكنّه مضى يعلّق على الوضع الراهن في مجتمعٍ عشتُ فيه عشرين عاما. وجدتُ نفسي أردّ عليه على نحوٍ لا يمكن أن أسلكه مع شخص غريب. بدأتْ حياتي كلّها تمرّ أمام عينيّ، فالجانب الشخصيّ من السياسة هو الذي لم أستطع أن أتجاهله. لقد طرح هارولد جانبا جديدا مما كنت أبغضه.
حين بدأنا الطبق الثاني من وجبتنا في ذلك المطعم الكئيب قرأتُ عليه إحدى قصائدي وحاولت أن أكشف بعضا من طبقاتها ومعانيها الخفيّة. ثم سألتُه عن انطباعه حول قصيدةٍ أخرى لي. أجاب بأنه خائف مما سيقول، لكنه أشار إلى بعضٍ من أهمّ الأجزاء في القصيدة وأبدى ملاحظات فريدة للغاية. قال لي ونحن نغادر المطعم: "لقد منحتِني أملا".
استحضرتُ كلماته حين أخذوا مني جواز سفري في مطار طهران واحتجزوني مع بعض الفتيان والفتيات ثلاث ساعات يفتّشون أمتعتي ويحقّقون معي تحقيقا مفصّلا حول جميع آثار الثقافة الغربية التي أحضرتها معي في حقيبتي أو في حياتي الخاصة: سبب سفري إلى الولايات المتحدة، والكتب التي أحضرتها إلى إيران، والناس الذين قابلتهم في الولايات المتحدة، والصور التي أحضرتها إلى إيران، ومقدار المال الذي أنفقتُه في الولايات المتحدة، والأشرطة التي أحضرتها إلى إيران. فُتِّشَتْ حقائبي كما فُتِشت خلفيّتي العائلية. تحققوا من كتبي ومهنتي. تفحصوا هُويتي بأكملها قبل أن يطلقوا سراحي، قبل أن يُسمح لي كما يبدو باستعادة جواز سفري واسمي وفرديّتي، وقبل أن تُرّدَّ إليّ أشرطتي. تلك الأشرطة التي مسحَتْها شرطة الأخلاق مسحا تاما، كان من بينها أغانٍ أيرلندية أهدانيها هارولد كتذكار.  
       وأنا أستمعُ إلى شريط هارولد الممسوح الآن أشعر بأنهم سحقوا كلماتنا التي تبادلناها، فهم حين مزّقوا الشريط مزّقوا الحوار، مزّقوا لحظةً متفرّدة من التفاهم والمتعة التي كانت ستستمرّ عبر الموسيقى. كنا أنا وهارولد قد فتحنا لبعضنا البعض عوالم جديدة؛ فرغم أننا من مناطق مختلفة بينها بحارٌ ومحيطات إلا أنني كنتُ أحتفظ بموسيقاه المفضّلة وهو يحتفظ بقصيدتي، كي نُبقي حوارَنا وذكرياتنا حيّة. كانت ثمّة قرابة وطيدة بيننا نسجتْها قِطَعٌ فنّية صغيرة. كان لكلٍ منا خلفيته وجنسيته وأفكاره وثقافته وديانته وعُمره، غير أننا اجتمعنا في لحظةٍ فريدة التقتْ فيها ذواتنا الداخلية رغم جميع الاختلافات. لذلك لم يكن الشريطُ فقط هو الذي دُمِّر، بل علاقتنا: علاقتي بـ"الآخر". إلى هنا ينتهي الفصل الأول من حكايتي.
أتركُ شُخوصي (هارولد وشرطة الأخلاق في المطار) في عوالمهم المختلفة يفكّرون كيف يمكن اعتبار "الآخر" (أيًا من كان أو ما كان) عدوًّا، وكيف تكون موسيقاه وكلماته وصُوره أسلحةَ العدو. ولكي أواجه هذا العدوّ ليس لي من خيار سوى أن أغلق الأبواب، وأختبئ، وأخنق صوت العدو. لكنّ هذه ليست مسؤوليتي. فإلى جانب شرطة الأخلاق ثمة آخرون أرفع منا موجودون هنا لتحديد "العدو" وإغماض أعيننا عنه. هؤلاء الأشخاص الرفيعون يعملون في وزارة الإرشاد والثقافة الإسلامية، من دون تصريحهم الرسمي لا تُنشر كتب أو مجلات، ولا تُوزَّع أشرطة، ولا تُعرض أفلام، ولا تُنشأ مؤسسات ثقافية. لك أن تتخيل المكان كحصنٍ على قمة جبل، قرب السماء، له هالة من القداسة، مكتظّ بأشخاصٍ (كلّهم آذان صاغية وأعين شاهدة) ينظرون إلينا من علٍ، ويقررون ماذا نقرأ ونشاهد ونسمع، وما الذي ينبغي أو لا ينبغي أن نستمتع به. ملائكتنا الحارسة هنا لترشدنا وتحمي ثقافتنا من العدو، "الآخر". لكننا بوصفنا دعاةً إلى الحوار بين الحضارات (مصطلح سكّه الرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي بفضله يُسمى العام 2001م "عام الحوار بين الحضارات") علينا أيضًا أن نرحّب بـ"الآخر".
إذًا فلا ينبغي إقفال الباب تماما. وفي هذه العلاقة المفتوحة لا بدّ من استخدام بعض الاستراتيجيات كي يمكن تكييف "الثقافة الأجنبية". في حياتنا اليومية يمرّ الأدبُ الغربي (بوصفه أحد تمظهرات تلك الثقافة) بالعملية نفسها، لا يقتصر تنفيذها على المسؤولين في وزارة الإرشاد والثقافة الإسلامية وشرطة الأخلاق، وإنما ينفّذها المترجمون كذلك، وفي بعض الأحيان القرّاء أنفسهم.  
*
قبل التطرّق إلى الكيفية التي يُقدَّمُ بها هذا النوع من الأدب في إيران، سأقصّ عليكم الفصل الثاني من حكايتي التي تنفتح على رواية الهوية لميلان كونديرا. تحكي الروايةُ قصّة التقلّبات التي تمرّ بها العلاقة بين رجل يدعى جان مارك وامرأة تدعى شانتال. ينتاب شانتال إحساسٌ بأنّها لم تعد تجذب أحدا بسبب تقدّمها في السن، وهذا يؤلمها، لذلك تصرّح لحبيبها جان مارك عن مخاوفها تلك. بعد ذلك تتوالى رسائل حب مجهولة المصدر إلى شانتال فتخفيها عن جان مارك وتحاول أن تكتشف هوية الشخص الذي يراسلها، لكنها تخطئ في معرفة هُويته عدة مرات. وحين اكتشفت أنّ جان مارك هو الذي كتب تلك الرسائل شعرت بأنه انتهك خصوصيتها. أما جان مارك فيتملّكه الغضب بسبب ردّ شانتال على رجل آخر (كاتب الرسائل) الذي هو من صنع خياله. تتمحور الرواية كلها حول حقيقة أنّ حبيبين في أكثر لحظاتهما حميميةً يشعران بأنهما لا يعرفان هوية بعضهما البعض، وبأن صوتيهما قادمان من مكان بعيد، حتى غدت كل لحظة مثقلة بالخوف من فقد الحبيب: تشعر شانتال بالحنين إلى جان مارك بينما هو جالس قبالتها، وجان مارك يراها طيفا، امرأة مألوفةً بوجه غريب.
       على الحدود بين الحلم والواقع، تصل الشخصيتان إلى مرحلةٍ لا يعرفان فيها ما إذا كانت القصة حلما أم لا. هنا يتدخل الراوي في الفصول الأخيرة من الرواية ليزيد من حدّة الغموض بطرح أسئلةٍ للقارئ عن قصّته الحُلُمية-الواقعية. ينتقل صوت الراوي عبر عقل الشخصيتين فيجسّد كلا من صوتيهما. وكل فصل مخصص لصوت واحد، وكل صوت يشبه نصف دائرة يكملها الصوت الآخر في فصل آخر. هكذا ترتبط الأفكار. هكذا ترتبط الأحداث. هكذا تُصنع بنية الرواية التي يقف خلفها كونديرا مبتسما، ولا يعرف ما حدث لهُوية سَردِه حين يُنشَر في بلدٍ بعيد جدا عن بلده.
*
أما الفصل التالي من حكايتي فتقع أحداثه في عالم الرواية نفسه ولكن في لغةٍ أخرى. تفتح الترجمةُ الفارسية لرواية الهوية عالما جديدا، ليس بسبب الاختلاف اللغويّ فحسب. فحين يُفتح الباب على العالم المترجَم للرواية تظهر الشخصيات نفسها وبالأسماء نفسها والأمكنة والزمان نفسه، لكنّ هذا العالم يبدو غريبا. ثمة فصول حُذِفَت وفقرات قُدِّمت وأُخِّرَت، وكلمات تُرجمت ترجمة خاطئة، فظهرت فجوات كثيرة لا يمكن ردمها بحال من الأحوال. نتيجةً لذلك، فإنّ الروايتين بعيدتان عن بعضهما، إحداهما طيفٌ ضبابي للأخرى. ثمة مناخ أغبش يغلف النسخة المترجمة نظرًا للتلاعب الذي حدث في الكلمات.
       يعبث المترجمُ باللغة إذْ يسلخ منها حرارتها ويُبطئ إيقاعها. يتجسّد ذلك أكثر ما يتجسد في العلاقة بين الحبيبين، الذين تُستخدم كل حيلة لفصلهما عن بعضهما. فشانتال حين "تحتضنُ جان مارك"، تقول الترجمة "تقترب منه"، وجان مارك حين يجعل شانتال تتعلّق "بجسده" تقول الترجمة إنها تتعلّق "به". ولئن كان جان مارك في رواية كونديرا "يلمس شانتيل بشفتيه"، ففي ذلك العالم المترجَم البعيد يكتفي بأن "يلاطفها". إذًا فالجُمل لا يُعاد إنشاؤها مرة أخرى في اللغة الأخرى، بل يبدو أنّ كل كلمة ذَبُلت جرّاء لمسةٍ من أصابع غريبة مخيفة.
       في أحد المشاهد العاطفية بين الشخصيتين يلاحقان بعضهما في الشقة فيما يشبه اللعبة. ونحن في هذه الدولة البعيدة نشاهدهما أيضا، ولكن بمجرد أن يصلا إلى السرير تنتهي اللعبة في عالمنا. لا نرى شيئا. جان مارك في عالمنا لا يضاجع شانتال بل يكتفي بأن "يصرّح لها بحبّه". هكذا يُسلخ "فِعلُ الحبّ" عن كل ما فيه من دلالات محمومة مُثيرة. هكذا يُزال سُعار الفِعل ولا يبقى سوى التصريح. وبالطبع لا نسمع أبدًا أنها تصرخ حين تبلغ نشوتها، وبدلا من ذلك نجد مساحة بيضاء فارغة تنتظر الفصل التالي الذي تشرق فيه الشمس (مبكرًا جدا بالنسبة لنا). غير أنّ هناك كلمات غير محذوفة مثل "تناسُل" و "جامَعَ" و "جِماع" حين تصفها إحدى الشخصيات بأنها "الغرض الوحيد من الحياة البشرية". ولم تُحذف أيضا كلمة "اغتصاب". لا ضير في هذه الكلمات بالنسبة للمترجم والرقيب. إذًا فالجنسُ كحوارٍ بين جسدين يُحذف، في حين أنّ الجانب المبتذل والعنيف من الجنس مقبول "أخلاقيا".
       ولا يقتصر تخريب التفاصيل على مشاهد الحب فحسب. فالتفاصيل التي تشكّل مناخ الحوار بين الحبيبين مقتطعة أيضا. فالشراب الذي يتناولانه والنَخْب الذي يشربان من أجله غير معروف بالنسبة إلى هذا الركن المطمئنّ من العالم. كل نوع من الشراب يصبح "شرابا" غير محدد، سواء أكان شامبانيا تزيد من إثارة اللقاء الأول بين جان مارك وشانتال، أم الكونياك التي تزيد من شعور الكآبة حين يتحدثان عن الموت، أم النبيذ كخلفيةٍ لحوارهما الخفيف. بحذف هذه التفاصيل الملموسة الصغيرة يُقدَّم لنا عالمٌ بلا فروق دقيقة.
الفروق الدقيقة في المشاعر تعاني المصير نفسه هي الأخرى. فشانتال يلمّ بها شعورٌ غامض لجان مارك في الرواية، إذْ معه "تُثقلها الحياة" ومن دونه "محكومٌ عليها أن تعيش". رغم ذلك، ففي عالمنا لا الشخصيات المتخيَّلة ولا الآخرون (القرّاء) لهم الحق في ازدراء الحياة أو اعتبارها حِملا ثقيلا. لذلك ما من أثرٍ لهذه المشاعر في الرواية المترجَمة.
أحاديةُ الأشياء في النسخة المترجَمة تفضي إلى نوعٍ من المـُطلقِيّة الأيديولوجية [أي تتسم بأحكام أيديولوجية مطلقة]. وتتمظهرُ هذه المطلقيةُ في شكلها الأصليّ أحيانا في ثبات المشاعر، وأحيانا أخرى في التقديس الأبديّ للمفاهيم. في إحدى الرسائل العاطفية التي يكتبها جان مارك يصوِّر شانتال في رداء كاردينالٍ أحمر، ويسمّيها "كاردينالي البديع". يختفي هذا في النسخة المترجَمة ولا نجد سوى إشارةٍ من جان مارك بأنّ اللون الأحمر هو لونه المفضّل، لون الكرادلة الجميل[3]. هكذا أُزيلت شخصية الأنثى تماما في تلك الترجمة المطوّلة لعبارةٍ قصيرة تعبّر عن حبّ جان مارك لشانتال، حبٍ يتسامى على الدين أو يغدو دين المحبّ على نحوٍ ما. في موضعٍ آخر من الرواية تصوّر شانتال نفسها كـ"كاردينال خليعة"، ومرةً أخرى يفضّل المترجم أن يقلب هذه الصورة إلى "مخلوق آثمٍ يرتدي رداء الكاردينال". ترتبط كلمة "كاردينال" بالدين، لذلك فحين تُترجَمُ يحتفظُ المترجمُ بقداستها عبر كل أنواع التلاعبات اللفظية السخيفة.    
       أما كيف صُوِّرَت "حفلة الجنس الجماعي orgy" في هذا العالم الصامت، فتلك حكاية أخرى، إذْ تُرجِمت الكلمة نفسها على أنها "حفلة" فقط. في الفصول الأخيرة من رواية كونديرا نجد شانتال عالقةً في منزلٍ تحدثُ فيه حفلة جنس جماعيّ، فتجري عاريةً مرعوبةً في متاهة المنزل تحاول أن تجد مخرجا. نراها في الرواية عاريةً بين غرباء، لا تعرف أين هي ولا تعرف اسمها (كطفلةٍ مولودةٍ في عالم غريب) تبحث عن صوت رجلٍ (لا تتذكره) كي يناديها باسمها، فيعيد إليها هُويّتها.
       أما في النسخة المترجمة فقد حُذِف عريّ شانتال والآخرين (رغم أنّ العريّ هو السِمة الرئيسة في حفلةٍ كهذه). وبالتالي فإنّ جَرْيها في ممرات المنزل بحثا عن مخرج لا معنى له بالنسبة للقارئ الذي لا يعرف شيئا عن حفلة الجنس. صحيح أنّ تجنّب ذكر عُريها يجعل المشهد مخيفًا، ولكن ليس بالطريقة التي أرادها المؤلف. فذلك اللقاءُ العاري بين شانتال والجمع الغريب في عالمٍ كابوسيّ يُصيبها بالرعب، الرعب نفسه الذي يؤدي إلى فقدان هُويتها. نعم تنقل لنا النسخة المترجمة رُعبا، لكنه رعب مختلف، فلا يكاد القارئ يعرف أين شانتال ولماذا هي مرعوبة. هكذا يحدثُ فقدان الهوية في عقل القرّاء أنفسهم؛ فهم أيضا عالقون في عالمٍ مجهول لا يعرفون فيه من يواجهون وماذا يحدث وكيف يحدث. وبدلا من الرواية يظهرُ أمامهم وجهٌ ضبابيّ لا يستطيعون أن يتحاورا معه.  
       لا يوجد كاتبٌ أمام القارئ، وإنما محرّكو عرائس يلعبون بالكاتب وشخوصه، يقوّلونهم ما لم يقولوا وما لم يفكّروا فيه، أو يقتطعون ما يقولونه وما يفكّرون فيه. على أنّ هؤلاء لا يكتفون بتحريك الشخوص حين ينبغي لهم الوقوف وإيقافهم حين تنبغي لهم الحركة، بل يستخفّون بالكاتب ويحطّمون العالم الذي شيّده.
*
       هنا يصلُ قرّاء كونديرا في طهران إلى الفصل الأخير من حكايتي، خارج منطقة الخيال، فهنا يحضرُ العالم الحقيقي (ظاهريًا). المكان: طهران، الزمان: فبراير 2000م. من ذلك الجوّ الضبابي في الرواية المترجمة ندلف إلى غرفة ذات إضاءة خافتة، وجوه متجهّمة لا تعرف بعضها، لكنّهم جميعا كما يبدو يعرفون روايات كونديرا عبر الترجمة. هذه هي شخصيات الفصل الأخير: طلاب أذكياء في الآداب والفنون والعمارة ف العقد الثاني والثالث من أعمارهم.
       تُرى كيف بدا صوتُ كونديرا لهم؟ هذا هو السؤال الذي يدشّن النقاش ويفتح أبواب الحوار. ينتقل الحوار من بين الشخصيات إلى حوار بيننا، نحن الجيل الأصغر من بلادي على بعد آلاف الأميال من بلاد كونديرا، في غرفة قاتمة في مساء شتويّ. استمتعوا جميعا بقراءة الرواية المترجمة، غير عارفين بأنها ملفّقة. يبدأ النقاشُ بسؤالٍ عن العلاقات الإنسانية.
       بعضهم يحاول أن يظلّ متحفظًّا، سواء بعدم الكلام عن علاقة شانتال وجان مارك أو بالحديث عنها بطريقةٍ موضوعية لا تخلو من تعميم وتفلسف. فبالاختباء خلف كلمات تجريدية أو اقتباسات فضفاضة يتجنّب هؤلاء التعبير عن ذواتهم فيما يتعلّق بالحب. لكنّ اثنين منهم (كاوَه، وهو ناشرٌ شاب، وعليّ، وهو طالب دراسات عليا في الأدب الإنجليزي) يتحدثان عن تجربة شخصية. فقد سبق أن عاش كل منهما قصة حبٍ فاشلة. ويبدو لافتا جدًا أنّ مناقشة الرواية ذكّرت اثنين من هؤلاء الشباب بعلاقاتهما غير المكتملة، فتجربتهما القرائية المنقوصة مع قصة حب في رواية تتطابق مع تجربتهما العاطفية.
       ثمة ردود فعل أخرى تثيرها شانتال وجان مارك المترجَمان، تبدو مختلفة من على السطح لكنّها تصطبغ بالدلالات نفسها. يقول أحمد (مهندس معماري شاب): "حبّهما سماويّ مقدّس. لا شيء جديد في علاقتهم. هي بالضبط كالموجود في أدبنا القديم. الشكل تغيّر فقط، أي وُضع مفهومٌ سماويّ في قالب دُنيوي. هاتان الشخصيتان وجهان لشيء واحد، متّحدان ومندمجان في كيان واحد". أما رامين (طالب هندسة معمارية) فيرى أنّ "هذه القصة تنسجم مع مشاعرنا وزماننا، تُرينا شيئا نعرفه مسبقا ولكننا لم نعرف كيف نعبّر عنه. الشخصيتان تتصرفان مثلنا، لذلك أحبّ الرواية. في هذه الرواية أجدُ القِيَم التي أعتنقها كإنسان معاصر". أما زيبا (طالبة هندسة معمارية) التي وصفت الشخصيتين بأنهما "مثيرتان للاهتمام جدًا بسبب واقعيتهما" فترى أنّ مثل هذه العلاقات (أي العيش معا دون زواج) لا توجد في إيران، لكنّ ذلك ليس مهمًا فهما يبدوان وكأنهما متزوجان.       
       هكذا وجد هؤلاء جميعًا شيئا منهم في جان مارك وشانتال، على أنّهما ليستا شخصيتي كونديرا "الحقيقيتين". بل إنهم وجدوا في هاتين الشخصيتين شيئا من شخصيات الأدب الإيراني القديم: "مثل حياتنا، مثلنا، مثل أدبنا". البحثُ عن هذا التماثل عند لقاء الآخر قاسم مشترك في رؤاهم التي طرحوها حول الرواية. فالركن المطمئنّ الذي يجسّده هذا التماثل حمى معظمهم من مواجهة عالمٍ مختلف. ولقد كان المترجمُ والرقيبُ جزءًا من تشكيل هذا التماثل، أما الباقي فهو ستارة مسدولة على عيني القارئ، غطاء يرفض ذلك البعيد غير المألوف، غطاء يحجب الاختلافات، يسترها بطريقة تجعلها مألوفة. هذا الغطاء الذي كان مصطنعا ومفروضا من الخارج (النظام الحاكم) أصبح الآن غطاءً جُوّانيًا.
*
ليس في المطار فقط تُنزع عن المرء أصواتٌ أو صورٌ أو كلماتٌ مخضّبةٌ بلون "الآخر"، بل إنّ المرء تُنزع عنه لحظاته الأكثر خصوصيةً في غرفته وهو يعيش تجربة شخصية في قراءة رواية. فعجزُ القراء عن الإفلات من واقعهم يمنعهم من أن يروا شانتال وجان مارك كما هما (شخصيتان أوروبيتان من أواخر القرن العشرين)، ويدفعهم إلى تغليف هاتين الشخصيتين بملامح مألوفة لهم من قصص الحب الفارسية القديمة. كما يدفعهم ذلك العجز أيضا إلى الخطأ في تفسير مثل هذا الحب الدنيوي على أنه حب سماويّ كيما يُغضَّ الطرفُ عن الفجوات التي وضعها المترجم/الرقيب في تعاريج الحوار ومنعطفاته بين الحبيبين، وكيما تُستَبعدُ الحاجةُ إلى خصوصيةٍ لاستمرار ذلك الحوار.   
       في الرواية تعاني الشخصيتان من انعدام الخصوصية، وخارج الرواية لا يتفكّر إلا قلّة في غياب الخصوصية هذا. دون وعيٍ منهم يوجّهون أصابعهم إلى شيء هم يفتقرون إليه بما هم ضحايا انتهاك الخصوصية كقرّاءٍ لروايةٍ استُئصلت خصوصيتها. تقول سُهى (طالبة دراسات عليا في الأدب الإنجليزي): "حين أخرجُ حاملةً دفتري أو جريدتي أو كتابي أظلّ دومًا حذرة، ويخطر ببالي أنّ شخصًا ما سيعتقلني عاجلا أم آجلا ويحقّق معي عن هذه الأشياء". حين تُنتزعُ الفضاءات الشخصية للفرد مرةً بعد مرة يُصبح التعبير عن الذات شبه مستحيل. فمثلا، نينا (طالبة هندسة معمارية) هي الأكثر هدوءا في هذه المجموعة وقد أعربت عن افتتانها بالطريقة التي تعبّر بها الشخصيتان عن ذاتهما الداخلية وكيف تدخلان "المناطق المحرّمة". تشعر نينا بالحاجة إلى فتح أكثر الأجزاء خفاءً في ذاتها، وفي نبرتها تيّار تحتيّ يجري، تَوقٌ إلى الإثارة، إلى "المشي على حبل رفيع". زيبا معجبة بجرأة الشخصيتين على التعبير عن ذاتهما وتقول "عادةً ما أمارس رقابةً على نفسي". لكنّ الأغلبية لا يتفوّهون بكلمة عن هذا الجانب، إذْ اعتادوا على حياةٍ غير خاصّة، حياةٍ كلّ ما فيها يُراقَب: من لون الملابس التي يرتدونها إلى هُوية الشخص الذي يضحكون معه في الشارع وحتى الموسيقى التي يسمعونها في سياراتهم والأفلام التي يشاهدونها في الفيديو. فضاءاتُهم الخاصة تداعت، حطّمها التدخّل الخارجي المستمر. كيف لهم أن ينخرطوا في حوارٍ دون أن ينمّوا أولاً ذاتًا حقيقيةً غير معطوبة؟ كيف لهم أن يتخاطبوا مع نصٍ حين لا يواجهونه كاملا؟ وكيف لهم أن يكتشفوا الفجوات في النص؟ تلك الفجوات التي تطابق فجواتٍ موجودة في ذواتهم الداخلية.
       من هنا يبدو أنّ لا مبالاتهم بشكل الرواية له ما يبرّره. فبالنسبة لهم يُعدّ محتوى رواية الهوية هو الجانب الأهمّ، حتّى أنهم يعتبرون الشكل غير مهم أساسا. يُشيرُ بعضهم إلى غياب البِنية في الرواية، وبعضهم يصفها بأنها مُلغزة، والبعض الآخر لا يشير إلى ذلك أبدا، وهكذا تتضاءل المتعة الجمالية للرواية خلف نقاشاتهم التجريدية. والأكيدُ أنّه بالنسبة لتلك الأيادي التي تقطع أو تتلاعبُ بأجزاء الرواية فتحذف فصولا أو تدمج فقرات غير مترابطة، لا وجود لشيء اسمه البنية الجمالية، بل إنّ الكتاب نفسه يُقدَّمُ على أنه عديم الشكل. هكذا هو أيضا تلقّي هؤلاء القرّاء للرواية، متشظٍّ ولا شكل له، كالنصّ الذي يواجهونه. لا عجب إذًا أن يكون شكل الرواية هو الجانب الأقل أهمية في نظرهم، ولا عجب أنهم لا يشتبهون في وجود فجوات في الرواية، أو ربما يعتبرون ذلك أمرًا بديهيا.          
       لا أحد يتحدّث عن الكتاب بوصفه كيانًا منقوصًا. لا أحد يشيرُ إلى غرابة العلاقة بين الشخصيتين. لا أحد يذكر حتّى ذلك الإبهامُ الذي خلّفتْهُ الأجزاء المتلَفَة. بل إنهم يبرّرون الغموض الذي يكتنف تلك الفصول بأنه "تعقيد" الرواية، أو مراوغة ضرورية من الكاتب نفسه. يعتقد هؤلاء أنّ ملء تلك الفجوات يقع ضمن مسؤوليتهم كقرّاء.
       هكذا أدخلُ الحوارَ كشخصيةٍ أخرى. فأنا أيضا عالقةٌ في هذا العالم المزيّف. أنا أيضا استمتعتُ به. وبلغت متعتي أنني قررتُ شراء النسخة الأصلية من الرواية وإعادة قراءتها مرات ومرات، على أنّ هذه المتعة تحطّمت بالكامل. من حطام تلك المتعة ظهرت حكايتي التي أرويها هنا، الحكاية التي لي أنا أيضا دورٌ فيها. في ليلة شتوية ظلماء أدخل الحوارَ لأحدّث أولئك القرّاء عن تجربتي مع الرواية، فأفكّكها وأكشفها كلّها بما فيها تلك الأجزاء المحذوفة والمحرّفة. هنا بدأ العالم المتخيّل "الحقيقي" للرواية ينكشف. رغم ذلك، وباستثناء بَهَار (طالب هندسة معمارية) الذي صُدم بعد أن أعدّ دراسة مفصّلة للرواية، ظلّ البقيةُ غير مبالين بشيء.     
       يقول رامين الذي يؤمن إيمانا جازما بأنه يستطيع أن يملأ تلك الفجوات بنفسه: "معرفةُ تلك الأجزاء لن تفتح لي بابا جديدا، ولن تسلّط ضوءا جديدا على الرواية". أما أحمد الذي يفضّل الحديث عن كل مدرسة فلسفية بدلا من الحديث عن ذاته وانطباعاته فيقول على مضض: "حتى لو قرأتُ تلك الأجزاء فلن يتغيّر الكتاب بالنسبة لي. الشيء الوحيد المهمّ في تلك الأجزاء جانبُها التعليمي. فبقراءتها نعرف ما ينبغي ألا نفعله". وأما سهى فترى أنّ الأجزاء المحذوفة "مُقرفة" للغاية، وتضيف قائلة قبل أن تغيّر الموضوع بسرعة: "أفضّلُ أن أقرأ النسخة المترجمة كما هي، وإلا فلا أدري ما إذا كان بإمكاني أن أحبّ الرواية". وأما زيبا فلا تلتفتُ كثيرا إلى ما تحمله تلك الأجزاء من صراحة صارخة، إذْ تراها "دُنيوية" جدا. تقول زيبا: "سمعتُ أنّ هذه الرواية هي الأنقى أخلاقيا من بين روايات كونديرا، فهي خالية من أية إشارات غير أخلاقية، وإن وُجدت فلا تزيد على النطاق اللفظي".
       يُنهي كاوَه هذا النقاش حين يندفع قائلا على نحو متهكّم: "هكذا قرأنا الروايات لسنوات، وهكذا سيظلّ الوضع. فلماذا نكبّر الأمور؟". صمت. صمت. صمت.  
*
في جانبٍ واحدٍ من الحوار ثمة صوتٌ يبحث عن آخر. في بعض الأحيان يكون هذا الصوت الباحثُ (وهو في هذه الحالة صوت القارئ) قانعًا بما يسمعه، أو لا خيار لديه سوى أن يشعر بالرضى. وهذا الرضى لا يتحقق بلقاء صوتٍ آخر بل -إلى درجةٍ معينة- بترديد صدى ذاتِهِ معتقدًا أنه صوتُ "الآخر". إذًا فالحوارُ الذي كان من المفترض أن يشكّل هُويةً، ويضفي حسًا من الوعي بالذات عبر اللقاء بالآخر يتحوّلُ إلى مونولوج يصوغه المترجمُ والرقيب، فما اللذان يواجهان "الآخر" بهيئته الحقيقية غير المألوفة، سابقَين على القارئ قيِّمَين عليه إذْ لهما الحقُّ في إعادة تشكيل عالم "الآخر". عندها يُقدَّم إلينا هذا العالمُ المشوّه على نحوٍ تبدو فيه آثارُ العمل الأصلي مزعجةً، أو غير ضرورية، أو أقلّ جاذبية. عبر هذا التخاطب المختلّ إذًا يبقى الطرفُ الآخر بعيدًا في الجانب القصيّ من الحدود سليمًا كما كان قبل أن نُخلع عليه لباسا تنكّريا في جانبنا، في إيران.      
       لا يؤخذ من تلكِ الهوية (الآخر) إلا أجزاء صغيرة، صورة تمثيلية لكائن حيّ. على هذا الجانب من الحدود قارئٌ يتشوّفُ إلى أن يلتقي بكائنٍ غير مألوف كما هو بكلّ أجزائه، لكنّه لا يجده ولا يستطيع التخاطب معه لو وجده. كلا الطرفين يبقى كائنًا وحيدًا على جانبٍ من شبه جسر. ثمة وهمُ حوارٍ لا أكثر، مع أصوات تبقى غير مسموعة أو مسموعة بطريقة خاطئة. هنا قارئٌ يتخاطب مع شظايا حُطامٍ يُسمّى روايةً مُترجَمة.    
       في الفصل الأخير من رواية الهوية يُنهي الراوي القصةَ على نحوٍ محيّر، يتثنّى بين الحلم والواقع. يسأل قائلا: "حُلُمُ مَنْ كانت هذه القصة؟". ليس لديّ جواب، وبالنظر إلى نفسي وإلى الشخصيات المتبقية أجد أننا عالقون جميعًا بين صفحات كتابٍ لم نشأ أبدًا أن نكون جزءًا منه. حُلُمُ مَنْ نحن؟ هل ننتمي إلى ذلك الحلم؟ هل يتملّكنا ذلك الحلم؟ أو هل هناك حلمٌ مختلف لكل واحدٍ منا؟
       تتراءى لي رؤية، تبدو كضوء خافق. تبدو كالندى المتلاشي الذي لا يمكنك لمسه أبدًا مهما اقتربت. وأودّ أن أنهي حكايتي بأشكال لا يُعرف عددُها أراها في قطرة الندى الصغيرة التي وجدتُها في يومٍ من الأيام.
الفصلُ التالي من حكايتي سيكون حكايةً خرافية.




1 هذا المقال مأخوذ من كتاب: Azam Zanganeh, Lila (ed.) (2006). My Sister, Guard Your Veil; My Brother, Guard Your Eyes: Uncensored Iranian Voices. Boston: Beacon Press.
2 شاعرة إيرانية ومترجمة وباحثة في الأدب. وهي تلميذة سابقة للكاتبة والأكاديمية المعروفة آذر نفيسي.
3 الكاردينال (جمعه كرادلة) منصب لرجل دين في الكنيسة الكاثوليكية، يرتدي حلّة حمراء شديدة الحُمرة، وهنا يشبّه ميلان كونديرا فوران الدم في جسد الحبيبة واستثارتها باللون الذي يمثّله الكاردينال، (المترجم).